الفصل الاول من رواية "غزل البنات" بقلم د. حنان لاشين، اقتباس"غمض عمر عينيه للحظة محاولًا أن يعيد أفكاره إلى نصابها، ثم نظر إليها وقال بثبات:"
غزل البنات الحلقة الاولى
أضواء مصابيح الشارع تصدر انعكاسات زرقاء على زجاج نوافذ البيوت التي ألقت ببعض البقع الفضية المتناثرة على الأرض حيث خلّف المطر خلفه غدرانًاً صغيرة من الماء فأضفت على الشارع الساكن مظهرًا خلّاباً، رائحة التراب المبتّلّ، وصوت المطر، وهواء بارد... إنه نوفمبر.
كانت الساعة قد شارفت على السادسة والنصف مساءً حين كانت "رحمة" تسير في طريقها عائدة إلى بيت عمّتها، لم تنتبه إلى "عمر" الذي كان يسير خلفها من بعيد، وعلى مهل سالكًا نفس الطريق، كان ًقلقا عليها، فالشارع بدا خاليا ًتماما من ّالمارة ،إنه الشتاء عندما يطّلّ بهيبته. كانت أوراق الشجر الجافة التي تحملها الريح تلسع وجهه كشفرات حادة، أما هي فكانت تحتضن كتبها وتسير بهدوء تكاد تطير مع الهواء لرقّتها... ترفع يدها من آن لآخر محاولة تفادي أوراق الشجر التي تشاكسها وهي تسير.
من بعيد ثمّة رجلين على الرصيف المقابل، حطام يتسكع بثياب رثةّ ودبقة تثير الاشمئزاز، عبرا الطريق واقتربا منها، وفجأة.. انبثق أمام عينيها نصٌلٌ برّاق كالشعاع من يد أحد الرجلين، ووقف الآخر خلفها حيث شعرت وكأن صوته الغليظ يخترق قفصها الصدري ويرتجّ فيه:
- أعطني الحقيبة...وإلا..
كان وجه اللص مثقوبًا بعينين ضيقتين مخيفتين تلمعان جنونًاً، أما الآخر فكان وجهه يبعث الرعب.. فكّ مجوف وعيون محتقنة بالدم ..لم تفعل شيئًا سوى إغماض عينيها وضم يديها إلى صدرها بخوف ثم الوقوف متسمّرة في مكانها..
ركض "عمر" ثم وثب من خلفها برشاقة وارتمى بشراسة على أحدهما وأسقطه أرًضًا وجردّه من سلاحه، هرب الآخر فنهض"عمر "بوثبة واحدة، وقنص على اللص الذي كان على الأرض من ياقة معطفه، ثم جرهّ ورفعه وألصقه بالحائط بقوة، ثم أمسكه من بلعومه ونشب أظافره في قصبته الهوائية..
وشدد من قبضته مضاعفًا من ضغطه على رقبته، في تلك اللحظة كانت "رحمة" تصرخ صرخات مكتومة..
فجأة أرخي "عمر" قبضته وأطلق سراحه ٍّمضطرا، فقد جرحه اللص جرحًا عميقًا في يده بسلاح آخر فسال الدم منها.
هرب اللص وهو يمسّد عنقه والتفت مهددًا بصوت مشروخ:
- ستدفع الثمن أيها الأحمق.
أطلقت "رحمة" صرخة مقتضبة ووضعت يدها على فمها عندما رأت الدماء تسيل من يد "عمر" ثم قالت وهي ترتجف:
- لابد أن نسرع إلى المستشفى الآن.
أغمض"عمر" عينيه للحظة محاولًا أن يعيد أفكاره إلى نصابها، ثم نظر إليها وقال بثبات:
بل سنسير إلى نهاية الشارع لعلنّا نجد سيّارة أجرة تقلّك إلى بيتك، ومن فضلك لا تسيري في هذا الشارع المهجور مرّة أخرى في مثل هذا الوقت، انتهت المحاضرات منذ ساعتين!
لماذا لم تعودي مبّكرًا إلى البيت؟
كانت في غاية الحرج وهي تقف أمام الدكتور "عمر" الذي يدرّسها في كلية الهندسة، والذي كانت طوال العام الماضي تعامله كأستاذ لها فقط، ثم فوجئت بعد انتهاء الامتحانات أنه يتقدّم لخطبتها..
رفَضَتهْ رغم مميزاته لأسباب تراها كافية لها، لكنها غير كافية له، وما زال يتواصل مع عمّتها "دعاء"؛ حيث أعطته رقمها بنفسها ،وبدأت الآن تحبّه وتشجعها على الزواج منه...
- قالت "رحمة" معللة موقفها بعد أن حدّجته بعينيها للحظات: كنت أحتاج إلى بعض المحاضرات من زميلاتي..
قال وهو يضغط على يده محاولًا تقليل نزف الدمّ:
- وهل المحاضرات لا تظهر إلا الآن!، ماذا كنت تفعلين طوال النهار؟
تابعت محاولة ألا تنم قسمات وجهها عن بادرة من الانفعال وقالت:
- كنت أدرس.. كنت مشغولة... يبدو أنها فشلت في إخفاء انفعالها من كلماته مما جعله يرتبك، فهو لايوَد إغضابها.
لاحت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول: - آسف لم أقصد اتهامك، ولكن انتبهي لنفسك، لا تسيري في هذا الشارع فهو غالبًا يخلو من المارّة الشارع في الجهة الأخرى أكثر أمانًاً، وحاولي دائمًا أن تسيري في مجموعة ولا تكوني أبدًا وحدك...
هيا من فضلك سيري أمامي حتى أراقبك، وسأسير خلفك حتى نخرج من هذا الشارع الموحش المظلم... بسرعة.
سارت بتوتر أمامه وهي ترتجف، أسنانها كانت تصطك من برد
أصابها في حضرة الخوف من أن يظهر اللصان مرّة أخرى، التفتت ناظرة إليه تستمد الأمان، فهزّ رأسه وأشار إليها لتكمل الطريق وزال خوفها بحضوره..
كان وجهه نبيلا يبعث الثقة والراحة والاطمئنان..
سارا بخطى سريعة في البرد القارص حتى وصلا إلى ميدان كبير يكتظّ بالناس وتدور فيه سيارات كثيرة... أوقف لها سيارة أجرة، ثم أعطى السائق بعض النقود وزاده.. وطلب منه أن يوصلها إلى بيتها حيث ستخبره بالعنوان بعد لحظات.
التفت إليها قائلا قبل أن يغلق باب السيّارة بعد أن اطمأن أنها ركبت:
- سأطمئنّ عليك من عمّتي بعد قليل. استدارت بتؤدة نحو صوته المطمْئن وقد لاحظت إطلاقه لقب "عمتي" على عمّتها "دعاء" وكأنها قريبته هو!!
وقالت:
- آسفة لجرحك أستاذي.. ودّعها على نحو مقتضب وهو يحدث نفسه بقلق:
- حتى متى سترفض "رحمة" الزواج مني، إنها حتى ترفض أن أزورهم بالبيت مع أمي!
راقبته هي من خلف زجاج السيارة المغطى بالبخار، فأحسّ بنظراتها تستقر عليه وراح يرمقها بلا حيلة وهي تغادره، ثم سار وحيدًا مهدل الذراعين يبحث عن أقرب مستشفى، ودماؤه تسيل من يده .
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"