الفصل السادس من رواية "غزل البنات" بقلم د. حنان لاشين، اقتباس"حيرتني دائمًا "أحلام اليقظة" التي كنت أغرق فيها لساعات وهي تروح وتجيء في ذاكرتي، كان لها في نفسي جمالٌ ومعه حماقة الرجاء وجنونه."
غزل البنات الحلقة السادسة
ومرتّ الأيام، وأمي تكرّر دعوتها:
- اللهم ارزقها زوجًا صالحًا قبل أن أموت.
وأزداد أنا التصاقًا بها، لا أفارقها إلا عندما أهرب لغرفتي وأغرق بين سطور رواياتي، أقلّب صفحاتها بحذر وأنا أخشى النهاية وترتعش نبضاتي... تتوقف أنفاسي أحيانًاً وأنا أتنقل من سطر إلى آخر، وكأنني أسابق الأحداث.. أشم رائحة أوراقها، أتأمل أغلفتها، أتخيل أبطالها.
كنت أشعر بوخزة في صدري وضيق يستمر لساعات بعد أن أغلق الصفحة الأخيرة من الرواية التي أقرأها، ثم أحاول الانسلاخ من عالم الخيال الذي كنت أعيش فيه لأعود إلى الواقع، فأنفصل نفسيًا عن الرواية التي كانت تأسرني، وأودع أبطالها، وأظّلّ أتفكر في نفسي ،وكيف وهبني الله القدرة على التخيل ،
وكيف جعلني طوال قراءتي، أفقد الإحساس بالزمان والمكان ،وأعيش أحداثها وكأنني أقف معهم وأسمع أصواتهم وأشمّ رائحة عطورهم، وأبكي معهم، وأخاف أحيانًاً عند خوفهم، وتنزل دموعي عندما يموت البطل، سبحان من جعلني أشعر بهم وكأنهم أحياء ...
وكأنني أخبئهم في نفسي!
حيرتني دائمًا "أحلام اليقظة" التي كنت أغرق فيها لساعات وهي تروح وتجيء في ذاكرتي، كان لها في نفسي جمالٌ ومعه حماقة الرجاء وجنونه، فقد خضعت لها خضوعًا لا يفنى وصرت مقيّدة بها.
كنت أحيانًاً إذا جلست للقراءة أعلّق نظري بأوّل سطر أمر به، ولا أنتقل عنه بعد ذلك، وأظل مطرقة للكتاب حتى يظن الرائي أنني أقرأ فيه .
وأنتقل من الواقع إلى عالم جميل من عوالم الخيال، وأتغلل فيه تغلل طائر النورس الأبيض المحلق في غمار السحب .
وتمر بي ساعات طوال فلا أعود لنفسي إلا إذا نادتني أمي، فإذا استفقت وجدتُنُي ما أزال في مكاني، وما يزال نظري عالقًا بهذا السطر الذي وقفت عليه، وكلما ابتعدت خطوة رجع لي صوابي خطوتين..
أقتبس من صفات أبطال الروايات التي أقرأها، وأرسم في ذهني صورة لفارس أحلامي، أغير فيها اسمه ووظيفته، وأحيانًاً لون شعره وبشرته، فأتسلىّ..
حاورته فيها كثيرًا، وتخيلت أني أعيش حياة معه في بيت جميل ،حياة مثالية، أصلّي خلفه، ثم يستقي أبناؤنا منه الخلق الحسن، يقرأ القرآن بصوت ّندي وأنا أسمعه ثم نبكي من خشية الله ًمعا.
ترى هل هناك حقًا شخص مثله؟، ظللت أحلم به، وكنت أنتظره.
كانت حياتي حلوةً هادئة، كحلاوة الحليب البارد، وكنت أحن إلى شيء آخر بنكهة مميزة، لاذعة ربما
أو مالحة قليلًا، تمنيت أن تتغير حياتي، فقد مللت وأحتاج إلى التغيير، وهذا ما حدث...
انتهى الشتاء وسحب رداءه الباهت، وتلحف به واستدار، ثم انصرف عنّا، وكشفت الشمس نقابها وابتسمت بحرارة، فتنهّدت الطبيعة، وبدأ قلبي يتنفس مع الكون، ومضى نصف الصيف الأول ،وغابت ابتسامة الشمس عني للأبد!
فقد ماتت أمي الحبيبة بعد مرض شديد لفترة قصيرة، في ليلة باردة، قمرها ضؤه خافت، خنقه الحزن عليها، وبدت نجوم السماءِ كمصابيح مأتم أُقيم بليل بهيم، شعرت وكأنني عدت طفلة صغيرة ضعيفة، لا تختلط بالناس خوفًا منهم وتنتظر الأمر من الراشدين لتفعل أي شيء، أصبحت أحيا ببعض نفس، وبعض روح، وبعض نفس .ماتت سر أسراري، وهداية حيرتي، وقُبلة الأيام على جبيني، كانت تملأ حياتي حبًا وعفوًا بلا حساب، دارت بي الدنيا، وصرت وكأنني أتنفس من ثقب إبرة، وكأن روحي التي خرجت وليست روح أمي .انتهت أيامي من الأمُ، وبدأت أيامي من الزمن وأنا وحيدة، ماتت أمي فحطت الرحمة أدواتها وارتحلت، وفارقت السعادة أسبابها.
حتى ساعات نومي تقلّصت، وإن غلبتني عيناي كنت أرى حلمًا واحدًا يتكرر، وهو أنني وجدت أمي حيّة سليمة لا تشكو من مرض!
وتحدثت معها واحتضنتها وأخبرتها أنني ظننتها قد ماتت .
ضحكُتُ في تلك الأحلام كثيرًا، وأفقت بعدها على الحقيقة؛ لأدرك أن عقلي الباطن أيًضًا قد أشفق عليّ فسربّ إليّ أحلامًا وأنا نائمة لتسليني.
اهتزت ثقتي بنفسي، فتغيرت، وتعكّّر الحليب البارد، وبدأُتُ مرحلة جديدة وهامة من حياتي...
كنت قد تخطّيت السادسة والعشرين من عمري بشهور، سنوات قليلة وأتأهّب للاقتراب والدخول تحت مظلة كبيرة أرغمنا المجتمع أن نسير تحتها، حيث ستحجبني عن أعين الخطّاب، وكنت أخشى هذا لأنني لست ممن يحدثون ضجّة، لألفت الأنظار... كنت أخشى الوحدة.
في الحقيقة غضبت من نفسي؛ لأنني لم أتوقف وأنا أسير في
حياتي بمحطّات كثيرة وظللت فقط على طريق واحد، بل ظللت في مكاني أدور حول نفسي.
لماذا لم أتعلم لغة جديدة؟
أو ألتحق بدورة مكّثّفة لأتقن التعامل مع أنظمة الحاسوب المتطورة!
لماذا لم أحلم بشيء آخر غير الزواج؟
سجلت كل أحلامي قيد الانتظار على بطاقة دعوة لحفل زفافي إلى شخص مجهول لم ألتقِ به حتى الآن!.. كم كنت كسولة. أصرّ شقيقي "جمال" على اصطحابي لأقيم معه في بيته بعد وفاة أمي ،وكان من الصعب أن أنتقل لبيت خالي في أسيوط وقد عشت كل حياتي هنا في الإسكندرية.
أغلقت البيت، وغطيت الأثاث، ثم جمعت أغراضي وملابسي وما أحتاجه في حقيبة
وطويت خمار أمي ودسسته مع مسبحتها بين ثيابي وكأنني أحملها معي....
قبل أن أنصرف، وقفت للحظات، وتأملت بيت أبي، درت بعينيّ أتفحص جدرانه التي زانتها الذكريات، هذه اللوحة شغلتها أمي فأعجبتنا وعلّقناها بعد أن حاصرناها بإطار ذهبيّ، فأطلت الوردات الحمراء التي شغلتها أمي ببهاء وتبسمت بحياء...
وتلك لوحة زيتية مرسومة بإتقان، ألوانها مزجت واختلطت وكأنها تعانقت بحب.
كانت لقارب في بحيرة يحوي شخوصًا باهته، تحنّ على هذا القارب أغصان شجرة مالت لتلامسه، وكأّنّ الّشّمس وهي تغرب قد أحنت
تلك الأغصان لتخطف قبلة من طرفه، وتلقي على ركابه السلام ....على اليسار أسفلها، وقّع الفنان "رأفت شوقي"، صديق قديم لأبي ،ورسام بارع، ريشته صادقة.
ودّعتني الثريّات المتدليّة من سقف البيت المرتفع وأنا أطفئها واحدة تلو الأخرى، وعاتبتني أبواب الشرفات العالية وأنا أغلقها بإحكام .أغمضت عيني ووقفت أسحب نفسًا عميقًا حيث تنفس أحبائي يوما ما ،ليجول الهواء في صدري كما جال في صدورهم، وحبسته للحظات لعله يؤنسني في غربتي، فكّلّ البيوت غربة إلا بيت أبي .
انتبهت لأخي "جمال" الذي بدا لي دائمًا رجلًا جليلًا عظيم الهيبة ،تتألّق ملامحة بالبشر والنور، وهو يعدِل نظارته، ثم ينحني ليحمل حقيبتي ويناديني بصوته الحاني، ثم يسألني:
- هل أنت جاهزة يا "دعاء"؟
التفت إليه وتأملت وجهه الممتلئ المستدير، وهو كل ما تبقي لي من أهلي، صرت أخشى عليه من نسمات الهواء.. وخاصة بعد مرضه بالسكريّ الذي داهمه منذ وقت ليس ببعيد ...
قلت بصوت واهن ومهزوم رغمًا عني:
- أنا جاهزة يا أخي، توكلنا على الله.
أغلقنا الباب ونزلنا على الدرج، كنت أتبعه كطفلة صغيرة يتيمة تائهة، شحب وجهها حزنًاً على أمها وتلحفت بالسواد.
لاحظ انكساري فأحاط كتفيّ بذراعه ومال برأسه على رأسي، وبدأ يهوّن عليّ، وقال بصوت مرح:
- "مودة" و"رحمة" سعيدتان لأنك ستنامين معهما في غرفتهما ،وتنتظران بشغف القصص التي ستقرئينها عليهما كل ليلة قبل النوم ،
وأنت تغيرين من صوتك وتمّثّلين وتلاعبيهما كعادتك.
ابتسمت بحبور، فأردف هو قائلا:
- سأشتري بعض الحلوى لنأخذها معنا لهما، وسنأتي لنزور البيت هنا كل فترة، ولن تشعري بأي فرق
هنا بيتك وهناك بيتك، و"نور" أختك، وأنت حبيبتي.
رحلت وبقي قلبي معلقًّا هناك، حيث ذكريات الطفولة، وأحلام الصبا ،ورائحة أمي، وضحكات أختي وصوت أنفاس أبي وسعاله المفتعل أحيانًاً بعد أي حوار جدالي مع أمي؛ لتسرع إليه بكوب الماء فتلتقي نظراتهما ويبتسمان لبعضهما بمودة وحب وكأن شيئًا لم يكن .
كانت حياتي في بيت أخي هادئة، أتلهّى بالنظر إلى "مودة "و"رحمة"، اللطيفتين وألاعبهما، وأراقب أخي وقد حلتّ السكينة على بيته، وكيف لا؟!، وهو وزوجته كلاهما ودودان محبان لبعضهما وقد سكن كل منهما لكلّه الآخر، اكتشفت الآن أن "جمال" نسخة من أبي رحمه الله، حتى في حنانه على زوجته الودودة
فأراهما وقد جلسا صامتين، هو يقرأ الجريدة، وهى تخيط زرًا في قميص زوجها بحب، وكأّنّ بينهما حوارًا صامتًا تصحبه ابتسامة حانية.
ومضت الأيام، وأنا أعاني من خجلي الشديد من أخي "جمال "وزوجته "نور"، وكل من يأتي لزيارتهما ويفاجأ بوجودي، ويسأل عن السبب.
شعرت بغربة ولم يخفف عني إلا ضحكات ابنتى أخي الجزلتين وهما تشاكسنني طوال النهار.
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"