الفصل السادس عشر من رواية "وبالحب اهتديت" بقلم سلمى خالد.
وبالحب اهتديت الحلقة السادسة عشر
وبالحُبِ اهتديت
«هُدايا وهُداكِ وبينهما العشق»
سلمى خالد إبراهيم
استغفر الله العظيم وأتوب إليه 3 مرات
حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم 7مرات
( قولهم مش هياخدوا وقت يا سكاكر♡(
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل السادس عشر
( أمان مفقود)
لا تؤلمنا الخيانة فدائمًا الحياة تخوننا ولكن المؤلم حقًا هو من خان!
توقف عقل عاصم عن التفكير، ينظر إلى غفران الذي نهض ممسكًا بعكازه، وقف سريعًا ليسير بجوار غفران فيرى من خلفه ولكن كانت قد اختفت، بهتت ملامحه وظل عقله شاردًا غير مدرك لحديث صديقه، نظر له غفران بتعجبٍ من تغير معالم وجهه فجأة، ليردد بدهشة تزداد كلما نادى ولم يستجيب:
_ أنت يابني! يلا أنت نمت واقف ولا ايه!
انتشله من حالة الشرود التي انغمس بها، ينظر له ببسمة طفيفة احترف برسمها، مرددًا:
_ لا ياعم بس ريحة الأكل سطلتني.
ضحك غفران على طريقته يتجاهل طريقته الغريبة والملحوظة وتحرك معه نحو الطاولة ليبدأ كلاهما بتناول الطعام حتى أتى عامر ليشاركهم الطعام وسط دعابتها الطريفة ليتجذب معه عاصم الحديث والنكات حتى لا يلاحظ غفران حالته.
**********
:_ خد جثتها وأرميها على أي طريق مقطوع خلي الكلاب تنهش فيها.
كلماتٌ جامد... قاسية تفوه بها على تلك المسكينة أمام صديقه الذي نظر له بيأس من رفضه للتحقيق بالأمر، فيكفي أنها جلبت لهم العار كما يعتقد، أومأ له بحزنٍ ثم اتجه لينفذ أوامره وما أن اسقط بصره عليها حتى شعر بالشفقة، فقد تلقت ضرب مبرح من شقيقها ثم قُتلت بدون أن يهتز قلبه لها، زفر بضيقٍ من هذا الجحود، وكأنه يهودي انخلع قلبه ووُضع مكانه حجرًا، تقدم لحملها ووضعها بالسيارة ولكن ما أن حملها حتى صدر أنين ضعيف منها، تأمل هذا الرجل شكلها ودُهش من كونها لا تزال على قيد الحياة، ليهمس بخفوتٍ:
_ دا أنت بسبع أرواح بعد اللي حصلك دا كله!
لم تقوَ الأخرى على فتح عينيها ولكنها همست بصوتٍ يأن ألمًا:
_ مـ... مظلومة... و.. وال... والله.
لا يعلم ما الذي يفعله فهي بالفعل أصبحت كالأموات، ملامحها الباهتة للغاية، وجهها الشاحب من نزيف جسدها، معالم وجهها التي اختفت من أثر الضرب المبرح الذي تعرضت له، تحرك بها نحو الخارج يضعها بالسيارة التي تركها له حسين، ثم تحرك بها إلى حيث قال شقيقها ولكن أنينها بالخلف يزداد ليمزق ضميره الصارخ من العذاب الذي تلاقه، إلى أن انحرف عن المسار الذي يسير به يدلف بشارع طويل للغاية بنهايته منزل صغير ذو طابق واحد به شقة، كان يعلم أن صاحب هذا المنزل لا يأتي إلا بأوقات قليلة ولا يتحدث مع أحد بتلك البلدة، صف السيارة ونظر للفراغ حوله ليترجل منها ثم حمل "وتين" التي لا تزال تحارب لأجل الحياة، فهي غريزة خُلق بها الإنسان ليتمسك بالحياة لأخر قطرة به، وضعها جوار البوابة يلقي نظرة أخيرة عليها ثم قال بحزنٍ:
_ مش هقدر اساعدك أكتر من كده... يا حد لحقك يا دا كان عمرك.
تركها بعدما ألقى نظرة سريعة عليها، ثم تحرك بعيدًا أسفل غروب الشمس واختفاء ضوئها ليحتل الظلام البلدة في ليلة قارصة البرودة.
*********
زفر ببطءٍ ما أن رأى الطعام كما وضعه، تغطي وجهها بعدما أخبرها بأنه من ساعدها لأخذ حمامها، تقدم ليجلس جوارها يزيح عن وجهها الغطاء بحجة البرودة كلما سألها، مردفًا بعدما نظر لوجهها:
_ هتفضلي كده كتير يا يقين... لزمًا تاكلي.
أبعدت وجهها عنه بضيقٍ وخجلٍ تحاول نسيانه، تعيد بكفها الغطاء مجددًا لها ولكن أمسك جبران يدها ليمنعها قائلًا بهدوءٍ:
_ اتكلمي يا يقين بلاش تسكتي كده...
ألتمعت عينيها بالدموع تحدجه بنظرة معاتبة قائلة:
_ اتكلم أقول ايه ما أنت قولت لحد ما كفيت ووفيت.
حاول استمالتها بالحديث يقبض على كفها برفقٍ، متمتمًا بحنو:
_ لا سكوتك بيقلقني وأنا عارف إنك موجوعة مني.
نزعت يدها عنه بنفورٍ، تنتفض بجلستها لتبعده قائلة بوجهٍ يشع بحُمرة ستدخل بنوبة بكاء عنيف:
_ عارف إني موجوعة منك وسبتني عادي ونزلت للحرباية اللي تحت... لو سكوتي هيقلقك ويخليك تعبان كده هفضل ساكتة يا جبران.
نظر لها بذهولٍ مما تتفوه به، بينما أشاحت هي بوجهها بعيدًا تحاول السيطرة على دموعها المنهمرة، تعض شفتيها بقوةٍ حتى كادت ان تمزقها لتمنع صدور شهقاتها، حاول السيطرة على انفعاله معها ليردد بهدوءٍ:
_ من امتى يا يقين بقيتي كده؟ بتتمنى وبتعافري توجعي غيرك؟
أغمضت عينيها بشدةٍ لتسيطر على مشاعرها، ولكن كانت كبركان ثائر انفجر بداخلها لتصبح مشاعر الألم والخذلان بمثابة الحمم التي تحرق صدرها، عاد جبران يكرر جملته مجددًا:
_ من امتى وأنتِ كده بتحاولي توجعي غيرك؟
أدارت رأسها مجددًا له، تعلو ملامحها علامات السخط والتهكم، تجيبه ولكن لم تسيطر على دموعها:
_ بجد مش عارف! أمال لو محكتش ليك كل حاجة؟
كاد أن يرد عليها ولا رفعت كفها أمام وجهه لتمنعه عن الحديث، يتحرك فكها بعدما طغى الألم بأنحاء جسدها ضاغطًا عليها، تسترسل بكلماتٍ كانت كصفعات على وجهه:
_ حكتلك كل حاجة عشان ادتني الأمان يا جبران اللي معرفتش شكله غير معاك وعشان متبقاش زيهم وتوجعني...
طاف الندم بعينيه من حديثها، لتسترسل الأخرى بقلبٍ منفطر:
_بس لما عرفت كل حاجة اتغيرت زيهم مع أقل غلطة مني سبتني وجريت على غيري وبقيت زيهم.
نفى برأسه سريعًا محاولًا تبرير موقفه:
_ لا مروحتش ليها أنا يمكن قولت كده لكن معملتش.
رفعت كفيها الأثنان أمام وجهه، تشير بعينيها عليهما قائلة بألمٍ:
_ بص على ايدي كده... شايف ايه!
لم يجد شيء فقط ترتعشان أمامه، عاد بنظره لعينيها يتطلع لها بجهلٍ عن الإجابة لتكمل بصوتٍ مبحوح:
_ هقولك فيهم ايه... أعصاب ايدي كلها وجعاني وبتترعش لوحدها عارف ليه؟ عشان فضلت واقفة في البلكونة مستنية أشوفك وأنت بتخرج من البيت ومتكونش معاها بس ملقتكش... مشوفتكش بتخرج من البيت يا جبران! عايزني أصدقك إزاي!
حرك رأسه بنفيٍ، محاولًا توضيح:
_ والله ما عملت اللي قولته! مش أنتِ ادتني الأمان إزاي مش مصدقني؟
منحته نظرة صغيرة مليئة بخذلانٍ كانت بمثابة نصل ينغرس داخله، تجيبه بشحوبٍ:
_ وضيعته.
ظل ينظر لها بصمتٍ، بينما سحبت يقين الغطاء مجددًا لتغطي كامل جسدها حتى رأسها دثرتها أسفله دون أن تتفوه بكلمة تاركة إياه يجني ثمار أفعاله.
**********
تائه... كانت الحالة التي تتلبسه بعدما سمع صوتها أثناء الغداء، أيعقل أن تكون زوجة غفران ولو كانت هي ما الذي عليه قوله لصديقه أنها متورطة في جريمة قتل خطيبها، تنهيدة قوية اندفعت من صدره للخارج لعل تهدأ صراع الذي يجول بعقله.
نظر للمنزل ببسمة متهكمة فهو كان يمل هذا الطريق من طوله وخلوه من الناس، الآن أصبح يسير به دون أن يشعر بالمسافة، مد يده بجيب سرواله ليخرج المفاتيح ولكنها سقطت منه يده، ليزمجر بضيق:
_ نقصاكي أنتِ كمان.
نظر بالأرض محاولًا ادرك مكانها ولكن عتمة الليل حجبت رؤيته، أمسك هاتفه يشعل ضوئه المسمى بالـ( فلاش) ليرى مكان المفتاح وما أن التقطته عينيه حتى هدأت انفعالاته وهبط ليمسكه ولكن قبل أن يصعد جحظت عينيه من رؤية تلك الجثة أمامه، انتفض تاركًا المفتاح ينطلق نحو هذا الجسد الملقى، يتحقق من ماهية شخصه ولكن رأى دماء تلوث جسدها بالكامل، أمسك معصمها سريعًا ليرى نبضاتها فما كانت سوى نبضات ضعيفة للغاية، أرسل إلى غفران أنه بحاجة سيارته ثم أعاد أغراضه مجددًا لجيبه يرفعها بخفةٍ على ذراعه وانطلق بها بالجهة التي سيأتي منها غفران وبالفعل رأه بسيارته قادمًا نحوه تعجب غفران من طريقته وما أن رأى ما بين يديه حتى تملكت منه حالة الذهول، هل يعقل جثة فتاة بين يدي عاصم؟
**************
زفرت باختناق وهي تحاول ايجاد شيء لتستخدمه ضد غفران، فلم تجد شيء نظرت نحو الخزانة فلم يتبق سواها، انطلقت نحوها تبحث بين أغرضه حتى ابتسامة ماكرة علت ثغرها ما أن رأت الرسائل التي تبعثها لغفران لا تزال بخزانته، جميعها الساخرة على عرجته إلا واحدة فقط من رسائل الحب بينهما متروكة ابتسمت بسخرية تعلم سر تركه لتلك الرسالة التي مخلص محتوها( سأبقى معاك مهما حدث بيننا) فهي تنم على الوفاء وتلك صفة غريبة عنها، همست بتهكم:
_ بتثبت لنفسك أنك اتغدر بيك مش أنت اللي معيوب... حلو أوي هخلي الإثبات دا ينفعك.
أعادت كل شيء مكانه ولكن تركت الرسالة الخاصة بالحب ظاهرة ليراها من سيفتح، تخرج طرف من الـ ( التي-شيرت) الخاص بغفران من الخزانة لتغلق عليه الباب، فيصبح شكلها عشوائي للغاية، ألقت نظرة أخيرة ثم قالت بتهكم:
_ وريني بقى هيحصل ايه يا غفران لما مراتك تشوفك خاين.
غادرت الغرفة سريعًا لتختبئ بغرفتها، ترسم بعقلها آلاف القصص التي ستحدث بين غفران وفاطمة.
***********
:_ أنا عايز أفهم مين دي يا عاصم؟
التقطت أذناه كلمات غفران المتحيرة، يستدير لينظر نحوه قائلًا بتعبٍ:
_ يا أخي حسبي الله يعني ضاقت في وشك ملقتش غير بيت بعيد عن الناس.
رفع غفران حاجبه باستنكار متمتمًا:
_ وحياة... ولا متخلنيش أغلط فيك دلوقتي وصوتنا يعلى في المستشفى، أنت اللي طلبت بيت بعيد عن الناس عشان محدش يدخل في حياتك ولا أنت كبرت وخرفت وجالك زهايمر!
اختتم حديثه بسخطٍ عليه، ثم أضاف ببرودٍ:
_ هتجاوب على السؤال ولا نعمل الصح!
حدق به عاصم بغيظٍ ثم قال:
_ عشان البيت بعيد عن الناس أكيد المجرم حطها عندي عشان التهمة تبعد عنه بس اللي هتجننله أن حاسس إني شوفت البنت دي قبل كده مستني تفوق يمكن أعرفها... الدم مغرق وشها وجسمها.
حدق به غفران قليلًا، ثم قال بتعجبٍ:
_ وايه اللي يخلي المجرم يحطها في بيتك ما ممكن يرميها على طريق مقطوع إلا لو....
أكمل عاصم يصك على أسنانه:
_ إلا لو عايز يلبسني الجريمة دي صح!
قبض عاصم على كفه بغضبٍ جامح، يحاول السيطرة عليه، ليعلق غفران سريعًا:
_ كلم والدتك واطمن عليها دلوقتي.
انتبه عاصم له وانطلق سريعًا يخرج هاتفه ليطمئن على والدته:
_ ايوة يا ست الكل طمنيني عليكي
تعجبت من اللهفة الموجودة بكلماته، لتجيبه بحبورٍ:
_ الحمدلله يا حبيبي أنا كويسة.
زفر عاصم براحةٍ ثم قال بنبرة جادة:
_ طب خلي بالك من نفسك يا أمي وأوعى تأمني ولا تدخلي حد شقتك ماشي.
_ حاضر يابني بس في حاجة لكل دا؟
نفى سريعًا سؤالها متمتمًا بتعجل ما أن رأى أحد الممرضات تخرج:
_ لا يا أمي بس هقفل دلوقتي عشان عندي شغل.
أغلق سريعًا ينطلق نحو الممرضة مردفًا:
_ الأنسة اللي جوا حالتها إيه؟
اجابته سريعًا وهي تلتقط بعض الأغراض الطبية من صديقها:
_ ادعلها يا أستاذ حالتها صعبة ونبضها ضعيف أوي.
عادت مجددًا لغرفة العمليات، بينما نظر عاصم نحو الغرفة وهو يشعر بأن هناك شيء تضمره تلك الفتاة، ولكن لا يوجد غيره من يمكنه إرسال له تهديد لينبهه أن فتح فمه مرة أخرى سيقتل والدته، انتشله من هذه العاصفة صوت غفران مرددًا:
_ أهدى يا عاصم... دا احتمال مش أكيد أن هو اللي عمل كده ممكن في حد رمى جثة البنت فعلا قدام بيتك.
حدجه بنظراتٍ نارية يردد بصوتٍ شرس
_ في الحالتين أنا متهدد يا غفران بس صبره عليا وأنا هسجنه.
تنهد غفران من طريقة صديقه ثم استدار ليغادر ولكن أوقفه عاصم متمتمًا:
_ عايز اشوف صورة كتب كتابك يا غفران.
************
تنهدت بتعبٍ بعدما انتهت من تنظيف المطبخ تصعد باتجاه غرفتها لتنتظر غفران أن يأتي ولكن ما أن رأت ذلك المنظر العشوائي بالخزانة حتى زفرت باختناق قائلة:
_ ماشي يا غفران لما ترجع هوريك على الدولاب اللي طافح هدوم دا.
انطلقت لتعيد ما يسقط من الخزانة مكانها ولكن لفت انتباهها تلك الورقة، حدقت بها قليلًا ثم قالت بحزنٍ:
_ أنا نفسي أفهم ليه سايب كل الجوابات دي.
كادت أن تزيحه وتضعه مع الباقية ولكن لفت انتباهها كلمة (بحبك) تعجبت من أن يحمل الجواب كلمة مثل تلك لتسرع لامساكه وفتحه، تقرأ محتواه بثُقل اعترى قلبها، بدأت تشعر بألمٍ يقتحم رأسها، ترى مثل تلك الكلمات، حدث مثل هذا الموقف من قبل ولكن متى لا تعلم!
تركت الرسالة تسقط على الأرض ثم تقدمت نحو الهاتف ولكن ألم رأسها في تزايد، ترى أجسام غريبة أمامها، رفعت الهاتف تردف بوهن قبل أن تغلق عينيها:
_ ألحقني...!
*************
تجمد جسده قليلًا ما أن سمع طلب صديقه، يعود بجسده مجددًا ليصبح بمواجهته، يرمقه بنظراتٍ تحمل الشك قائلًا:
_ وعايز الصور ليه دلوقتي؟
زفر عاصم مختنقًا، يريد أن يرى إن كانت هي أم لا! ولكن لا يريد أن يعلم غفران بما يفكر به، ليردف بنبرةٍ مازحة:
_ في ايه يا عم ما نفسي أشوفك بالبدلة.
نظر له بذهولٍ متمتمًا:
_ نعم! دلوقتي!
أومأ عاصم ببسمة باردة أثارت غيظ غفران ليهتف ببرودٍ مماثل لبسمته:
_ والله ما تنولها وخليك في المصيبة اللي نزلتلك من السما دي.
رمقه بنظرةٍ مغتاظة ثم زفر بحنقٍ يسقط بصره على غرفة العمليات، بينما غادر غفران ليستقل سيارته ولكن قبل أن يدلف داخلها استمع إلى رنين هاتفه، ظن أنها فاطمة فهو تركها لساعات طويلة ولكن الدهشة أنه كان جده، أجابه سريعًا ولكن استمع لصوته الحاد:
_ أنت فين دلوقتي؟
انعقد لسانه أمام جده احترامًا له ولكن لم يحبذا طريقته في السؤال، ليزمجر الجد جبران بعصبية:
_ أنت فين وسايب مراتك في البيت مغمى عليها!
اتسعت عين غفران بصدمةٍ، يتذكر تلك الحالة التي تأتيها بكل مرة كان يقسو عليها، نطق أخيرًا بعدما دفع عكازه لداخل السيارة:
_ أنا جاي أهو يا جدي بس قولي عنوان المستشفى؟
أملاه الجد جبران عنوان المستشفى ثم أغلق معه، بينما امتلاك القلق قلب غفران وهو يتخيل أنه تركها بمفردها بتلك الحالة، ضرب عجلة القيادة بكفه يهدر بعصبيةٍ مفرطة:
_ غبــي.
تحرك بمسافةٍ لا بأس بها ولكن ساعدته على السيطرة بانفعالاته حتى يستطيع التحدث مع جده وفاطمة وما أن وصل حتى وجد جده يجلس على مقعد بجوار غرفة، تحرك بعرجته بسرعةٍ إلى أن كاد يتعثر ولكن استطاع الحفاظ على توازنه، فوقف أمام جده مردفًا بقلق:
_ فاطمة مالها يا جدي؟
رفع جبران بصره متهمكًا، ثم قال بسخطٍ:
_ المفروض أنا اللي أسألك ايه اللي يخلي مراتك قبل ما يغمى عليها ترن عليا أنا مش أنت وتطلب إني ألحقها؟
لم يستطع اخفاء صدمته ما الذي يقصده باتصالها على جده وليس عليه، رمقه الجد جبران بنظراتٍ ساخطة مغمغمًا:
_ فاطمة لو حصلها حاجة يا غفران هيكون لينا حساب وهتسيبها لو اتسببت بأذى ليها واحنا بنحاول نبعدها عنه.
نظر غفران إلى جده بصمتٍ، لم يشأ أن يتحدث بكلمةٍ بهذا الموضوع، ثم دقق النظر بجده وردد بشكٍ متهكم:
_هي دمياط في الشارع اللي ورانا؟
نظر جبران له بسخطٍ لا يزال عالقًا بحدقتيه مجيبًا:
_ شكلك خيبت يا غفران ومحتاج تراجع نفسك اظاهر الأربع سنين خلوا مخ يصدي؟
زفر غفران بانفعالٍ يحاول السيطرة عليه، ما الذي يقصده جده، ثم قرر التحلي بالصبر فالآن لابُد من يهدأ فجده لن يصمت بسخريته، وقف جانبًا بعيدًا عنه ينتظر خروج الطبيب.
فكانت ثلاثون دقيقة كثلاثون شهر مروا عليه، أمسك بعكازه جيدًا ثم تقدم نحو الطبيب عندما غادر الغرفة ليهتف بقلقٍ واضح:
_ فاطمة مالها أنا جوزها؟
نظر الطبيب نحو غفران بعدما رأى الجد جبران يحذره بعينيه ألا يتفوه بكلمة عن حالتها الحقيقية التي علمها للتو منه ليطمئن إن ما حدث لها لن يؤثر عليها، فقال بهدوءٍ:
_ هي اتعرضت لصدمة عصبية خلتها أغمى عليها حاليًا خدت مهدئ ونايمة وهتصحى الصبح... ولكن خلوا بالكم مينفعش تتعرض لصدمة في فترة قريبة تاني ولاسيما أن نفسيتها تعبانة وبتتأثر بسرعة... عن اذنكم.
تركهم الطبيب يسير بعيدًا إلى مكتبه، بينما استمع غفران لحديث الطبيب باهتمامٍ ثم رفع بصره نحو جده الذي منحه نظرة غامضة هادئة ثم قال بهدوءٍ :
_ فرصتك الأخيرة وبعدها أنا اللي هتحكم يا غفران.
استدار ليغادر المشفى تاركًا مساحة لهما أو بمعنى صحيح فرصة غفران الأخيرة باصلاح ما يحدث حوله.
جلس غفران على المقعد بالجوار ثم يسند بساعديه على فخذه يشبك أصابعه ببعضهما ثم نظر للفراغ يفكر بكل ما يحدث حوله فلعل الوقوع بتلاهي الحياة أنسانا أن هناك أشخاص لابُد أن نسقط بصرنا عليهم.
************
صباحًا...
لو كان عقله حجرًا لنُحت عليه ملامحها التي دقق النظر بها منذ شروق الشمس، يشعر بألمٍ يفتت ما يبقع خلف ضلوعه عندما لجأت لغيره، ألهذه الدرجة تراه عاجزًا! زفر ببطءٍ لعل أعصابه التالفة من التفكير تهدأ، يشرد كثيرًا بكل ما يدور حوله، نظر لها فوجدها لا تزال مستكنة غائبة عن الواقع، نهض يقترب من النافذة يرفع هاتف ليرى ما الذي حدث معه فأجابه بزفيرٍ مختنق:
_ مفيش خرجت من العمليات بس لسه في العناية عشان العملية كانت خطيرة وهي أصلًا كانت شبه ميتة دا... دا الدكتور بيقول دي اللي يتقال عليها بسبع أرواح.
ابتسم غفران بهدوءٍ ثم قال ببعض الشرود:
_ أو يمكن فضلت عايشة عشان لسه ليها دور في الدنيا وفي حياة الناس مخلصش.
قطب عاصم جبينه بتعجب من كلمات غفران الغامضة، ليردف بنبرة متعجبة:
_ تقصد ايه بظبط؟
انتبه غفران لحديثه، ليسرع بالحديث:
_ مفيش يا عاصم... أنت هتبات ولا مروح؟
مط شفتيه باختناق مردفًا:
_ هروح أغير وأكل واجي تاني أما نشوف ست سبع أرواح دي قصتها إيه!
أومأ غفران متفهمًا ثم أغلق معه، وما أن رفع بصره عن شاشة الهاتف حتى رأى عينيها ولكن تسبحان بدموعٍ، حدق بها بصمتٍ يدقق النظر بهما... نعم أنه يعلم تلك النظرة أهي تراه خائن! تحرك بعرجته الواضحة دون عكاز حتى وصل إليها يقف أمامها بهدوءٍ مردفًا:
_ اتصلتي بجدي ليه ومتصلتش بيا؟
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، لا تريد النظر إليه يكفي ما وجدته معه، رأى ما فعلته لتزداد غرابته منها، ظل يتقدم منها حتى استطاع الجلوس على جانب السرير، يمسك وجهها بكفه ليديره إليه مردفًا بصوتٍ رخيم:
_ ليه؟
لم تفهم سؤاله لتنظر له بعدم فهم، ليوضح الأخر:
_ ليه شايف في عينيكي أني خاين ووحش؟
هبطت دموعها بصمتٍ، تنظر له وتمر كلمات تلك الرسالة أمامها، رفعت كفها تبعد يده عنها بنفورٍ، ولكن أمسك غفران كفها بين يديه بتحكم كي لا تفلت، يردد ببعض الضيق:
_ في ايه يا فاطمة؟ أنا مش لاقي مبرر للي بيحصل؟
نظرت له فاطمة ببعض الحدة ولا تزال دموعها تهطل بغزارة، تجيبه بغضبٍ:
_ قبل ما أقول مبرري ممكن حضرتك تقولي ليه محتفظ بجوابات العشق والغرام اللي بينك وبين هوني هانم؟
فطن ما ترمي له فاطمة، وعلم أنها رأت تلك الرسالة المتبقية من هناء، استقام ليقف بكبرياء مهدوم، يجيبها بنبرةٍ غريبة لا تعلم أغلب عليها الحزن أم السخرية أم الغضب:
_ لو بصيتي على الجوابات كلها هتلاقي أن دا الجواب الوحيد اللي بينهم.
علقت بسخطٍ:
_ والله! ومحتفظ بيه ليه؟ هتحن تاني؟
برزت عروقه بشدة، يحاول السيطرة على انفعاله الذي بارعت باظهاره، ينظر لها بطريقةٍ مخيفة، يزمجر بعنفٍ:
_ كلمة كمان يا فاطمة وهنسى أنك مراتي.
ارتجف جسدها من تهديده...ملامحه... تنظر لصدره الذي يعلو ويهبط بانفعالٍ، ليسترسل غفران بغضبٍ جامح وكأنه براكين اطلقت حممها:
_ الجواب الوحيد اللي سبته كان جواب بتتكلم فيه عن الوفاء واخلاصها في علاقتنا... فسبته وسط كمية الجوابات اللي كلها تريقة ومعايره على اعاقتة رجلي عشان أثبت حاجة واحدة يا حرمي المصون...
ارتجف قلبها من كلماته ، تنظر لوجه الذي أصبح خالي تمامًا من أي تعبير، ليسترسل غفران بجمودٍ:
_ إن مفيش حد من جنس حواء ممكن نأمنله تاني.
صمت عن الحديث دون اضافة كلمة أخرى، بينما نظرت له فاطمة ببعض الخوف لا تعلم ما الذي ستقوله، فحاولت الحديث بتلعثم لتبرير موقفها:
_ أنا... أنا بس... أصل هي قالت أنك ممكن تحن وو..وعشان كده مطردتهاش من البيت!
حدق بها بنظرةٍ خاوية يدقق النظر بها وبتوترها الذي يزداد كلما طال صمته، تحرك باتجاه عكازه ثم قال بتهكم:
_ لو فكرتي بعقلك دا بربع جنية بس هتعرفي إن دا بيت جدي يعني لا يمكن أطردها وزي ما سيادتك جيتي قعدتي هي كمان جت وقعدت.
تحرك باتجاه الباب يمسك بمقبضه، بينما ارتجفت شفتيها أثر رغبتها بالبكاء، ثم هتفت برجفة تضرب كلماتها:
_ أنت هتسبني؟
ابتسم بسخطٍ يستدير لها قائلًا:
_ أظاهر في حاجات محتاجة تتصلح!
غادر الغرفة تاركًا إيها تفكر بما قاله حتى شعرت أنها النهاية ألا... وهي الطلاق!
**********
:_ المريضة اللي حضرتك جيت بيها فاقت وهتروح أوضة عادية.
قالتها إحدى الممرضات بعدما خرجت من العناية المركزة، تاركة هذا العاصم يفكر بما ستقوله تلك الفتاة، هل ستخبره بما حدث ومن فعل بها هكذا؟
زفر باختناقٍ ثم صعد إلى الطابق المطلوب، يطرق للغرفة عدت مرات فلم يجد استجابة، لم يخطر بعقله سوى أنها لا تزال نائمة لذا دلف إلى الغرفة ولكن قبل أن يخطو للداخل كان صوت صراخها يعج بالمشفى بأكملها!
************
ابتسمت أميرة بمكرٍ وهي ترى جبران يغادر المنزل حاملًا حقيبة ما غريبة، صعدت إلى الأعلى حتى وصلت إلى غرفة جبران ثم دلفت بها دون أن تطرق لتنتفض يقين بفزعٍ من اقتحمها المفاجئ، وما أن علمت ماهية المقتحم حتى هتفت بغيظٍ:
_ أنتِ إزاي تدخلي كده؟ ومين سمحلك أصلًا؟
رمقتها أميرة بنظرة ساخرة ثم تحركت بالغرفة تتحدث ببرودٍ:
_ بشوف أوضة جبران زوجي المستقبلي.
اتسعت عين يقين من جراءتها لتتمتم بحدةٍ:
_ أنتِ ايه البجاحة وقلة الأدب دي اطلعي برة وإلا...
قاطعتها أميرة تنظر لها بحدةٍ مخيفة مردفة:
_ لا قلة الأدب دي على نفسك مش عليا فاهمة... وعلى جبران فأنتِ خدتي حاجة مش بتاعتك وهبعتلك تذكرة وداع لوالدتك.
قالت جملتها الأخيرة بضحكة ساخرة، بينما تساقطت الدموع من عين يقين تشعر بغصةٍ تؤلم قلبها، نعم هي لا تعلم كيف ستحاربها وهي بالأساس محطمة، تجمد جسدها وكذلك الواقفة أمامها بذعر وصل لمسماعهما:
_ وأنا هبعتلك تذكرة وداع لخالتك الله يرحمها!
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"