رواية خيوط النار الفصل الثالث عشر 13 بقلم نورهان موسي

 الفصل الثالث عشر من رواية "خيوط النار" بقلم نورهان موسي.

رواية خيوط النار الفصل 12 بقلم نورهان موسي

خيوط النار الحلقة الثالثة عشر

خيوط النار
الفصل الثالث عشر ...

في مكتب اللواء عز الدين، جلس خلف مكتبه يُقلّب أوراق التحقيق بإمعان، وعقله يعجز عن تصديق أن ماجد قد فرّ من قبضتهم مرة أخرى. كانت ملامحه توحي بالغضب الممزوج بالمرارة، لكن عينيه لم تفقدا ذلك البريق الصلب، الإصرار الذي لا يلين... كان يدرك تمامًا أن النهاية قد اقتربت.
انفتح الباب فجأة، ودخل أحد الضباط يرافقه زاهر، الذي كان مكبّلاً بالأصفاد. خطواته واثقة، لكن وجهه كان يحاول جاهدًا أن يخفي القلق الذي بدأ يتسلل إلى ملامحه.
رفع اللواء عز الدين رأسه عن الأوراق، وحدّق فيه بنظرة صارمة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة ممزوجة بالانتصار، وقال بنبرة حاسمة:
**أخيرًا... أخيرًا وقعت يا زاهر.
جلس زاهر على الكرسي أمامه، بينما ظل عز الدين يرمقه بنظرات مشتعلة بالتحدي. ارتكز بجسده إلى الأمام، وكأن كلماته على وشك أن تخرج كالرصاص:

**أنا بجري وراك بقالى سنين... ملفات طارت، شهود اتصفّوا، مخازن اتفجّرت، وكل مرة كنت بتفلت... بس المرادي، لأ.
أمال زاهر رأسه للخلف، وابتسامة ساخرة تشق وجهه، وقال بنبرة مستهزئة:
_يعني شايف إنك كده خلاص مسكتني؟ فرحان؟!
ضرب عز الدين بكفّه على سطح المكتب بقوة، فارتجفت الأوراق وتطاير بعضها، ثم قال بعصبية مكتومة:
_مش فرحان... راضي! لإنك اتقفشت متلبّس، بمخدرات، سلاح، تسجيلات، كاميرات، شهود... ده حتى نفسك اللي بتنفسه متسجل وانت بتسلّم الشحنة الأخيرة.
ضحك زاهر باستهتار، ورفع حاجبه وهو يرد:
_ياااه! ده انت عامل شغل عالي أوي... بس عارف؟ انت برضه مش فاهم حاجة.
نظر إليه عز الدين بحدة، وقال بصوت متماسك رغم الغليان الذي يشعر به في داخله:
_فاهم أكتر ما تتخيل... عارفك كويس، وعارف الشر اللي جواك، وعارف إنك خرّبت بيوت ناس كتير. بس اللي فات غير اللي جاي. دلوقتي القانون هو اللي بيتكلم... والعدالة خلاص قربت توصلك.
أطلق زاهر ضحكة ساخرة وهو يرجع بجسده على الكرسي، ثم قال بنبرة تحدٍّ:
_طب ما تقول كده من الأول... عدالة إيه وقانون إيه؟ ده انت فاكر إنك لما تقبض عليا الشر خلص؟ لأ يا باشا... أنا مش لوحدي. أنا ورايا ناس، ناس تقدر تهزّ البلد برجليها. وصدقني، أول ما أخرج – وده هيحصل – كل اللي شافني هنا هيختفي.
ظل عز الدين ينظر إليه بثبات، ثم اقترب ببطء وهو يقول بنبرة هادئة لكنها مليئة بالقوة:
_الكلام ده كان زمان... دلوقتي رجالتك يا إما جوه، يا إما تحت المراقبة. حتى المحامي اللي كنت باعتله عشان يخلّصك؟ شغال معانا من شهور.
ضحكة زاهر جاءت هذه المرة مهزوزة، كأن شيئًا في داخله بدأ يتصدع. ومع ذلك قال بعناد:
_ماشي يا عز... العب لعبتك للآخر، بس افتكر كلمتي كويس. أنا عمرى ما بخرج لوحدي. وأنا لو غرقت... هغرق معايا كتير.
اقترب عز الدين منه أكثر، وصوته صار خافتًا لكنه ينزف تهديدًا:
_وأنا مش فارق معايا مين هيغرق... طول ما الحق بيظهر، والناس اللي زيك بياخدوا جزاهم، هافضل أكمّل... واحد ورا التاني. وإنت أول قطعة وقعت من الدومينو.
ثم التفت إلى الضباط، وأصدر أوامره بصوت واضح لا يقبل النقاش:
_خدوه، وابدأوا التحقيق الرسمي فورًا. خليه تحت المراقبة ٢٤ ساعة، وبلّغوا النيابة بكل الأدلة. مش عايزين أي ثغرة يتسلّل منها.
لكن زاهر لم يسكت، بل نظر إليه نظرة ماكرة وقال بنبرة لئيمة:
_ما تنساش أنا عملت إيه في صاحبك زمان! فاكره؟ لما خلتك تشوفه بيهرب زي الفار، كان بيترعش من الخوف.
اشتعل وجه عز الدين بالغضب، وضرب بكفّه على المكتب مجددًا، فاهتز كل شيء فوقه. لكن هذه المرة، خرج صوته هادئًا لدرجة مرعبة:
_ما تلعبش على الوتر ده... اللي حصل زمان محفور جوايا. صاحبي يمكن اختفى، بس قضيته لسه عايشة في قلبي. وزي ما وقعت إنت، هوقع اللي كان معاك. وكل ثانية هتقضيها هنا، هتدفع فيها تمن اللي عملته بيه.
زاهر حاول يحافظ على ابتسامته، لكنها بهتت مع نظرات عز الدين الثابتة، واضطر يبلع ريقه وهو بيبعد نظره عنه للحظة. كأن قلبه قاله إنه خسر الجولة دي فعلًا.
قال بصوت أخف، لكنه متماسك:
_المهم... خلي بالك من نفسك، اللعب قرّب يولّع. والنار لما تولّع، ما بتفرّقش بين ظابط ومجرم.
اقترب منه عز الدين حتى صار وجهه أمام وجهه، وقال بصوت خافت لا يخلو من التحدي:
_وأنا مش هطلعك من النار... أنا هولّعك جواها. ومش هسيبك غير لما تتحرق بكل اللي عملته. فاهم؟!
سحب الضباط زاهر نحو الباب، بينما الأخير كان ينظر خلفه بنظرة مليئة بالكره، لكن عينيه هذه المرة كانت مهزوزة، متوترة، كأن الخوف بدأ يتسلل إليه رغمًا عنه.
قال وهو يُسحب للخارج، محاولًا أن يبدو واثقًا:
_اللعبة لسه مخلصتش يا عز الدين... وأنا لما أرجع، هبقى كابوسك.
لكن عز الدين، وهو واقف مكانه، رد بابتسامة هادئة ونظرة ثابتة:
_الكوابيس بييجي لها فجر... وفجرك طلع خلاص.
أُغلق الباب خلف زاهر، وبقي عز الدين واقفًا أمام النافذة، ينظر إلى سيارة الترحيلات وهي تبتعد. كانت عيناه ساكنتين، لكن بداخله عاصفة من القلق، يعلم أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن الرجال الذين خلف زاهر، لن يسكتوا بسهولة.
*********
في غرفة "يونس" بالمستشفى، كان كل شيء ساكنًا إلا صوت أجهزة المراقبة الطبية التي تصدر طنينًا ثابتًا يبعث على القلق. كان مستلقيًا فوق السرير، غارقًا في سبات عميق بفعل تأثير الأدوية، وجهه شاحب، وجسده ساكن، وكأنه يحارب في صمت.
جلست "مريم" إلى جواره، تمسك بيده برفق، كأنها تخشى أن يذوب من بين أصابعها ويختفي. كانت عيناها معلقتين بملامحه الهادئة، تراقب صدره وهو يعلو ويهبط، تبحث في كل نفس يخرجه عن الطمأنينة… عن الدليل أنه لا يزال هنا، معها.
لم تكن تنطق بكلمة، فقط نظراتها تخبر بكل ما يخالجها من خوف وقلق وامتنان لوجوده… لكنها رغم صمتها، كانت تضج بالدعاء داخليًا، أن تمر هذه الغمامة الثقيلة، وأن يعود "يونس" كما كان، قويًا، ضاحكًا، حيًا بكل ما تحب فيه.
فجأة، قطع رنين هاتفها هذا السكون المقدّس. نظرت نحو الشاشة، فتجمدت لوهلة… رقم غريب. حدقت فيه بارتباك، ثم ألقت نظرة سريعة على "يونس"، وكأنها تستأذنه في أن تتركه لحظة.
نهضت بهدوء من مقعدها، وخرجت إلى الممر خارج الغرفة، حيث الضوء الخافت والهدوء المشوب بالقلق الذي يخيم على أجنحة المستشفى. جلست على أحد المقاعد بجوار الحائط، وأجابت بتردد:
مريم بصوت هادئ:
_ألو... مين معايا؟
جاءها الرد بصوت ناعم متصنع، يحمل مزيجًا غريبًا من الود والتصنع:
_هاي يا مريم... أنا مس "شهد"، صاحبة "عائشة"، فاكراني؟
اتسعت عينا "مريم" قليلًا، وارتفعت حاجباها باستغراب. لقد تذكّرت الصوت، ولم تكن مرتاحة له من قبل. كانت دائمًا تشعر بشيء خفي خلف تلك النبرة، شيء لا تطمئن له، لكن حفاظًا على مشاعر "عائشة"، حاولت التحدث بهدوء:
مريم بتحفظ:
_آه، فاكرة... خير؟ في حاجة؟
ظهر التوتر للحظة في صوت "شهد"، لكنها حاولت السيطرة على نفسها وجة؟
أحسّت "مريم" بالضيق، ولم تحاول إخفاءه، لكنها أبقت نبرتها هادئة قدر الإمكان:
_هي معانا في المستشفى... "يونس" اتصاب، وبقاله يومين هنا.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر، ثم جاء صوت "شهد" بنغمة قلق مصطنعة:
_إيه!! "يونس" اتصاب؟! يا حبيبي... طب اديني عنوان المستشفى، أنا جاية حالًا!
اتسعت عينا "مريم" من وقع الجملة الأخيرة، ورفعت رأسها بدهشة، لتقول بنبرة مستنكرة:
_إيه؟ "حبيبك"؟!
شعرت "شهد" بالحرج، وقد خانها لسانها دون قصد، فارتبكت للحظة، لكنها سرعان ما حاولت تدارك الموقف:
_سوري يا "مريم"، مقصدش كده خالص... أصل يعني "يونس" حبيبنا كلنا، شهم وجدع، وكمان ده هيبقى جوز صحبتي وأختي... اديني العنوان وخلاص، أنا في السكة.
ارتسمت ملامح الشك على وجه "مريم"، وعيناها أصبحتا أكثر حدة، كانت تقرأ ما وراء الكلمات، وتشعر أن شيئًا ما مريب في تلك النوايا المتخفية بلطف كاذب. فردّت بنبرة حازمة، دون أن ترفع صوتها:
_مش محتاجة تيجي... إحنا معاه، ومش ناقصين زحمة ولا ناس كتير. هو محتاج هدوء، وأنا هطمنك بالتليفون.
كلمات "مريم" خرجت كالسيف، ناعمة لكنها قاطعة. أما "شهد"، فقد ظلت صامتة للحظة، تحاول أن تبتسم، لكن نبرتها لم تنجُ من زيف الابتسامة المصطنعة:
_تمام يا حبيبتي... ألف سلامة عليه. وأنا هكلم "عائشة" أطمن منها.
أنهت "مريم" المكالمة دون ود، وحدّقت في شاشة الهاتف للحظات، وقد احتقن وجهها بالغضب. قبضت على الهاتف بقوة، وكأنها تود أن تحطّمه. ثم تنهدت بعمق، وهمست لنفسها بشفتين مرتجفتين:
_البنت دي وراها حاجة... وحياة "يونس"، ما هسيبها تقربله، ولا تقرب لـ"عائشة"... هشوف آخرك إيه.
وعلى الجانب الآخر، كانت "شهد" لا تزال ممسكة بهاتفها، تحدق في الشاشة المظلمة، وقد تغيرت ملامحها من التودد إلى الغيظ. وجهها احمرّ، وأنفاسها باتت ثقيلة، وعيناها تشعان بالغضب المكبوت.
عضّت على شفتها السفلى بقوة، وهمست في مرارة:
_فاكرة نفسك أذكى مني؟ استني بس... هقربلك من كل اللي حواليكي، وأولهم "يونس"... وهتشوفي، هعرف آخد اللي أنا عايزاه إزاي. و"يونس"... هيكون ليا.
كان كل شيء صامتًا حولها، لكن في داخلها كان بركان على وشك الانفجار.
وفي المقابل، كانت "مريم" قد قررت، وبقلب الأخت الحارسة، أنها لن تسمح لأي أحد أن يؤذي من تحبهم... ولو اضطرها الأمر أن تحارب بصمت هي الأخرى.
*********
أغلقت "مريم" المكالمة وتنهدت بعمق، محاولة أن تسيطر على اضطراب أنفاسها. وجهها كان مشدودًا، وملامحها يعلوها الغضب والقلق في آنٍ واحد، بينما عيناها تلمعان بدموع مكبوتة، وداخلها يغلي بصمت.

استدارت لتعود إلى غرفة "يونس"، لكنها توقفت فجأة عندما فوجئت بـ"عمر" واقفًا أمامها في الممر، مستندًا إلى الحائط بابتسامة خفيفة، وعيناه تتابعانها باهتمام.
عمر بابتسامة وهو يشير إلى الهاتف:
_ يا نهار أبيض... واضح إنها مكالمة تقيلة! لدرجة إنك بتكلمي نفسك بعد ما قفلتي!
مريم (بضحكة باهتة ومحاولة للتماسك):
_ تقيلة جدًا… كل كلمة كانت زي حمل على قلبي، حسيت إني عاوزة أهرب من الحوار كله.
عمر (مداعبًا):
_ شكلك كنتِ بتسمعيها وإنتي بتعدّي في سرك: "امتى تخلص؟!"
مريم (بضحكة خفيفة لكنها حزينة):
_ دي بَنت سَمجة والله… بس حاسة إن وراها حاجة مش طبيعية، في حاجة مستخبية.
ضحك الاثنان بخفة، وبدأ التوتر يتلاشى تدريجيًا من ملامح "مريم". شعرت للحظة أنها تستطيع التنفس وسط قسوة اللحظات، وعادت لهجتها للهدوء، بينما "عمر" يحاول إضفاء بعض الخفة والدعابة ليخرجها من حالة التوتر والحزن التي كانت تسيطر عليها بسبب "يونس".
لكن هذا الهدوء لم يستمر طويلًا…
من نهاية الممر، ظهر "زيدان". كان واقفًا يراقبهما من بعيد، عيناه مشدودتان، حاجباه معقودان، وملامحه متجهمة بشدة. جسده توتر بالكامل، ونظراته كانت كأنها تخترق المكان، مشبعة بالغيرة والرفض، وكأن المشهد أمامه أشعل بداخله نارًا لا يستطيع إخمادها.
اقترب بخطوات سريعة، وصوته خرج حادًا، لا يحمل سوى التهكم والغضب:
زيدان (بحدة وهو يوجه حديثه لعمر):
_ أهو ده اللي ناقص... هزار وضحك في وقت زي ده؟!
عمر (مندهشًا من نبرته):
_ إحنا بس بنهزر شوية، بنفك التوتر... مالك يا ابني؟
زيدان (نظراته حادة كالسهم):
_ ومين قال إن هزارك هيفك حاجة؟! ولا إنك توقف تهزر معاها كأننا قاعدين في كافيه؟!

شعرت "مريم" بأن صوت "زيدان" اخترق صدرها، توقفت عن الضحك فورًا، وانقلبت ملامحها من الهدوء إلى الصدمة. حدّقت فيه بدهشة وغضب مكبوت، لا تصدق ما تسمعه منه.
مريم (نبرتها متوترة وفيها اعتراض واضح):
_ هو في إيه؟! إنت بتكلمه كده ليه؟! إحنا معملناش حاجة غلط!
زيدان (بعصبية متصاعدة):
_ آه… لما تضحكي وتتهزري كده مع أي حد، يبقى في غلط!
مريم (بصوت بدأ يعلو):
_ أي حد؟! ده "عمر" صاحب "يونس"، وزي أخوه بالظبط... وأنا مش طفلة علشان حد يحاسبني على كل نفس باخده!
توقفت للحظة، ثم أكملت بصوت مهزوز من شدة الانفعال:
مريم:
_ وبعدين... إنت مالك؟!

صُدمت "زيدان" من سؤالها، وكأن كلماتها ألقت به في دوامة من التناقضات. عيناه بدأت تهرب من نظراتها، وملامحه فقدت حدتها، لكن قلبه ظلّ مضطربًا، غير قادر على الرد... لأن الجواب الحقيقي كان يحاول إنكاره أمام نفسه قبل أن يُنكره عليها.
"عمر" شعر بالإحراج من الموقف، وكان واضحًا عليه أنه يحاول تهدئة الجو:
عمر (بهدوء وهو ينظر لـ زيدان):
_ يا "زيدان"، ممكن تهدى شوية؟ أنا بعتبر "مريم" زي أختي بالضبط، ومفيش أي حاجة تستاهل عصبيتك دي. أنا همشي دلوقتي، ولما تهدى نبقى نتكلم.
تحرك "عمر" مبتعدًا، وترك خلفه صمتًا مشحونًا. "مريم" وقفت لثوانٍ، تحاول تمالك نفسها، لكن عينيها بدأت تمتلئ بالدموع. شفتاها ترتجفان وهي تحبس غصة في صدرها.
ثم قالت بصوت مخنوق:
_ أنا داخلة لـ"يونس"... شكله الوحيد اللي حاسس بيا.
فتحت باب الغرفة بهدوء، ثم أغلقته خلفها دون أن تنظر إليه، تاركة "زيدان" في مكانه، متيبس الجسد، مشوش الأفكار، ومحمّلًا بالندم.
وقف للحظات في مكانه، يتنفس بصعوبة، ثم تنهد بمرارة، وحدّث نفسه بصوت خافت:
_ شكلي زودتها... ولخبطت الدنيا خالص.
*******
كانت "الخالة" تسير بجوار "عائشة"، تحمل في يدها حقيبة صغيرة تضم بعض الملابس التي طلبها "يونس". خطواتها كانت واثقة، لكن وجهها المغطى بملامح القلق كشف عن ثقل ما تحمله في صدرها. أما "عائشة"، فكانت تسير بصمت يصرخ، شاحبة كأن الحياة انسحبت من ملامحها، وعيناها المتعبتان تنطقان بقلق دفين يأبى أن يغفو. خطواتها كانت بطيئة، كأنها تجرّ قلبها المنهك مع كل خطوة، وقد غاصت في دوامة من الترقب والخوف.
وحين اقتربتا من مدخل المستشفى، برز أمامهما رجل بزيّ عسكري أنيق، يحمل هيبة واضحة في وقفته المستقيمة ونظراته الصارمة. لكن رغم ذلك، كانت في عينيه لمحة دفء خفية، تُشعرك بأنه ليس بذلك الجفاء الذي توحي به ملامحه. إنه "اللواء عز الدين ".
تقدّم بخطوات ثابتة نحو "الخالة"، بينما كانت "عائشة" تحدّق فيه بدهشة خفيفة، شعرت بأنها رأته من قبل، لكن ذاكرتها خانتها في البداية.
عز الدين بصوت هادئ يحمل الاحترام:
_ السلام عليكم… أنتي خالة يونس؟
ابتسمت "الخالة" ابتسامة خفيفة، اختلطت فيها المفاجأة ببعض الارتياح، وقد بدأت تتذكر ملامحه بوضوح. رأته من قبل، في عزاء والد "يونس"، والآن تأكدت أنه رئيسه في العمل.
الخالة بأدب وابتسامة باهتة:
_ أيوه، أنا خالته. مش حضرتك رئيسه في الشغل؟!
اللواء وهو يسلّم عليها بلطف:
_ أيوه… أنا جيت أطمن عليه. يونس من رجالتنا الجدعان. ليا الشرف إني أشوفكم.
هزّت "الخالة" رأسها بامتنان، وقد شعرت بنوع من الطمأنينة في حضوره. أما "عز الدين "، فقد تحوّلت نظراته إلى "عائشة". نظر إليها لوهلة، كأنّ ملامحها شدّته دون قصد. كانت واقفة في هدوء ظاهري، لكنها من الداخل كانت مشتعلة بالتوتر، وظهر ذلك في ارتباك عينيها.
عز الدين بصوت ناعم، يحمل فضولًا دفينًا
_ وإنتي... أنتي قريبة يونس؟
عائشة بصوت هادئ لكن به رجفة خفيفة
_ أنا عائشة... خطيبته.
ارتسمت على وجه "عز الدين " ابتسامة صغيرة، لكنها كانت مشوبة بالحيرة. ظلّ ينظر إليها لثوانٍ، وكأن ملامحها أيقظت في ذهنه ذكرى قديمة لم تكتمل بعد.
_ ما شاء الله… ربنا يحفظكم لبعض. أنا هدخل أطمن عليه معاكم، لو تسمحوا.
الخالة:
_ اتفضل طبعًا، حضرتك تنوّر في أي وقت.
ثم تحرّكوا سويًا نحو الطابق العلوي، حيث يرقد "يونس" في غرفته.

داخل غرفة يونس
كان "يونس" مستلقيًا على سريره، وجهه باهت من أثر الإصابة، لكن ملامحه بدأت تستعيد شيئًا من الحياة. إلى جواره جلست "مريم"، تمسك بيده بقوة، كأنها تخشى أن يفلت منها فجأة. عيناها كانتا مملوءتين بالدموع، لكنها تحبسها بإصرار. كان في عينيها توتر حنون، ورجاء صامت بألا يفارقها ثانية.
وفجأة، فُتح باب الغرفة. انتفضت "مريم" واقفة، وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة فرح حقيقية، كأنها استنشقت نفسًا من الأمل بعد طول انتظار.
_ أخيرًا جيتوا! اتأخرتوا كده ليه؟!
عائشة اقتربت بخطوات مترددة، وعيناها تمسحان وجه يونس بقلق
_ معلش… كنا بنجيب شوية طلبات.
دخلت "الخالة" يتبعها "عز الدين "، وما إن وقعت عينا "يونس" عليه حتى حاول أن ينهض رغم ألمه. تقافزت في ملامحه الحماسة، وتحرك جسده المنهك بدافع من مشاعر الفخر والانتماء.
يونس (بصوت ضعيف، لكنه مشحون بالحماس):
_ إزيك يا فندم؟ منور الدنيا!
اقترب عز الدين منه واردف بابتسامة فخر قائلا
_ لا، إنت اللي منور يا بطل… رفعت راسنا. شد حيلك وارجع تاني، البلد محتجاك.
ألقى "عز الدين " نظرة سريعة نحو "مريم"، حيّاها باحترام، ثم أعاد عينيه إلى "عائشة". كانت واقفة في طرف الغرفة، تحاول أن تبدو ثابتة، لكن توترها كان واضحًا في عينيها وفي ارتجاف أصابعها. نظر إليها "اللواء" مجددًا، لكن هذه المرة كانت نظرته مشحونة بالحيرة. عبس قليلًا، وانكمش حاجباه، كأنه يستحضر من ذاكرته صورة ضبابية.
اهمس لنفسه، بالكاد يُسمع
_ الوش ده... أنا شوفته قبل كده... بس فين؟ معقول تبقى هي؟!
شعرت "عائشة" بنظراته، فرفعت عينيها نحوه بسرعة، وابتسمت بخفة، ابتسامة متوترة أشبه بستار تحاول أن تخفي به اضطرابها العميق.
تحدث بصوت حازم يحمل ثقة
_ "زاهر" اعترف بكل حاجة خلاص... فاضل بس "ماجد"، هنقفل الدائرة قريب.
وفور سماع الاسم، انتفض "يونس" من مكانه، وكأن الكهرباء سرَت في جسده. تحوّلت نظراته نحو "عائشة" التي تجمدت في مكانها، ثم عاد بعينيه إلى "اللواء"، وصوته خرج ملهوفًا، يكاد يصرخ رغم ضعفه
_ أرجوك يا فندم… سيب المهمة دي عليا، أنا اللي لازم أمسكه!
نظر إليه "عز الدين " بعين مليئة بالتقدير، لكنه هز رأسه برفق:
_ مينفعش يا ابني، إنت لسه تعبان. وأنا بالفعل كلّفت "زيدان" يجمع الأدلة. بس كان عندك حاجة عايز تقولها لي، مش كده؟
نظر "يونس" إلى "عائشة"، كأنّه يستمد منها القوة، ثم عاد بعينيه إلى "اللواء"، وقال بثقة هادئة:
_ هقولك كل حاجة… أول ما أخرج من هنا، إن شاء الله.
ربت "عز الدين " على كتفه بلطف، وهو يبتسم بفخر:
_ هستناك… ومستني رجوعك بشغف.
يونس بابتسامة ضعيفة، لكن فيها صلابة رجل عاد من الموت أقوى
_ حاضر يا فندم… وإن شاء الله أرجع أقوى من الأول.
غادر "عز الدين " الغرفة، لكن قبل أن يعبر الباب، توقّف لحظة. ألقى نظرة أخيرة نحو "عائشة"، نظرة طويلة، حائرة، كأن قلبه يهمس له أن هذا الوجه ليس غريبًا... بل مألوف أكثر مما ينبغي.
********
خرج اللواء عزالدين من غرفة "يونس" وقد تملّكه شعور غريب، مزيج من القلق والارتباك. كان يسير بخطوات هادئة، لكنها تنمّ عن تشتت واضح. عيونه ما زالت متعلقة بصورة وجه "عائشة"، وكأن ملامحها حفرت شيئًا في ذاكرته لم يستطع الوصول إليه بعد… شيء قديم، مطمور، يُلح عليه كصوت خافت في العتمة.
توقّف فجأة، حين لمح شخصًا يقف في نهاية الممر... كان يرتدي ملابس كاجوال بسيطة، يقف بثبات وابتسامة خفيفة تزيّن وجهه.
زيدان بابتسامة هادئة:
_ كنت متأكد إنك هتيجي تزور يونس بنفسك.
اللواء بابتسامة صغيرة لكن باهتة:
_ ده أقل واجب… يونس بالنسبة لي مش مجرد ظابط، ده ابني التاني. كفاية إنه شرفنا… وقدر يقبض على زاهر بإيده.
زيدان بشيء من الفخر:
_ طيب… هو عامل إزاي دلوقتي؟
_ الحمد لله… حالته مستقرة، وصحته اتحسّنت.
(سكت قليلًا، ثم قال بنبرة خافتة):
_ بس حسيت بحاجة مش مريحة… مش عارف أوصفها.
زيدان (بتعبير متفاجئ):
_ قصدك إيه بالضبط؟
عز الدين وهو يسرح بعينيه في الفراغ:
_ البنت اللي كانت هناك… "عائشة". ملامحها مش غريبة عليا.
(تنهيدة طويلة تخرج منه ثم يهمس):
_ كأن وشها مرّ عليا قبل كده… في موقف، أو… مكان ما. بس مش قادر أفكّر فين بالضبط.
زيدان (مازحًا ليكسر التوتر):
_ يمكن شفتها في حلم؟ ولا كانت على غلاف مجلة!
اللواء (بضحكة خفيفة لكنها سريعة الزوال):
_ ما تستهبلش يا زيدان… الموضوع مش سهل كده. أنا عايزك تراجع كل حاجة عنها.
(عيناه تصبح أكثر جدية، ونبرته تنخفض لكنها تحمل أمرًا واضحًا):
_ أعرف هي مين… عايشة فين… بتشتغل إيه… ومين يعرفها. كل حاجة.
سكت للحظة، ثم رفع عينيه إلى "زيدان" بنظرة حاسمة.
اللواء:
_ أنا مش جاي أتكلم بس… أنا جاي بأمر. لحد ما يونس يرجع، إنت اللي هتمسك ملف "ماجد".
زيدان (وقد تلاشت المزحة من نبرته فجأة):
_ ماجد؟!… يا فندم الملف ده تقيل جدًا، والشغل كله كان مع يونس من البداية. هو اللي متابع كل خطوة.
اللواء (بحزم قاطع لا يحتمل النقاش):
_ وأنا واثق إنك قدها.
(تقترب نبرته من دفء الأبوة):
_ يونس شال فوق طاقته… ونجح. وإنت جه وقتك.
زيدان (بتنهيدة طويلة ونظرة تفهم المسؤولية):
_ تمام يا فندم… اعتبر المهمة بدأت من دلوقتي.
"اللواء" وضع يده على كتف "زيدان" برفق، لكن ضغط يده حمل كل المعاني التي لم تُقال… الثقة، والحذر، والرهان.
اللواء:
_ خليك صاحي… الناس دي بتلعب على الحافة، وأي غلطة صغيرة ممكن تكلّفنا كتير… أرواح.
زيدان (بثبات):
_ تمام يا فندم… متقلقش.
"اللواء" أومأ برأسه، ثم أكمل طريقه بهدوء. خطواته لم تعد مضطربة كما كانت، لكن الحيرة لا تزال تعتمل داخله.
ركب سيارته وأدار المحرك، وانطلقت به السيارة نحو المديرية… بينما سؤاله ما زال يتردد في أعماقه:
"هي البنت دي… مين؟ وليه قلبي مش مرتاح؟"
********
وقفت مريم بجوار النافذة، ساكنة كالظل، لا تُحرّك ساكنًا. كانت تحدق في الفراغ بعينين يغمرهما الحزن، وعقلها يجاهد للخروج من دوامة المشاعر التي أثقلتها. وجهها بدا شاحبًا، وكأن أثر الحزن نقش على ملامحه. لم تكن تبكي، لكن كل شيء فيها كان يصرخ بصمت.
وفجأة، تنبّهت لصوت خطوات تقترب بخفّة من خلفها. التفتت ببطء، لتجد زيدان واقفًا خلفها، يحمل كيسًا صغيرًا في يده، ونظراته لا تخلو من ندم ظاهر، وكأن الحزن قد تسرّب إلى قسمات وجهه دون استئذان.
ينفع اخد من وقت حضرتك دقيقه ولا هتقفلى الباب فى وشى
مريم رمقته بنظرة باردة تحمل استغرابًا وحذرًا، ونبرتها خرجت جافة، على خلاف ما كانت تختلج به داخلها من مشاعر متضاربة:
"عايز ايه تاني يا زيدان؟"
اقترب زيدان خطوة منها، كأن تلك الخطوة وحدها تتطلب منه شجاعة كبيرة، ثم تنهد ببطء وقال بصوت يشوبه الخجل:
"عايز اعتذر عن كل كلمة خرجت منى الصبح كنت مضغوط وغيران بس مكنش ليا حق اتكلم معاكى كدا
أجابت مريم بهدوء، لكن نبرة جرحها كانت واضحة، ونظراتها زادت قتامة:
"اللى ضايقني مش انك زعقتلي، الى ضايقني انك شكيت فيا وانا عمر ما كنت استاهل منك كدا
خفض زيدان عينيه لوهلة، وكأن كلمتها طعنته في قلبه، ثم قال بإخلاص ظاهر:
عارف وعشان كدا جبت دى
مدّ يده بالكيس وهو يرسم على وجهه ابتسامة خفيفة باهتة، وقال:
دى رشوة رسمية شوكولاتة نوعك المفضل
تناولت مريم الكيس من يده، وعلى وجهها لمعة خفية من الامتنان حاولت أن تُخفيها بابتسامة خفيفة، لكن عينيها خانتاها، فقد امتلأتا ببريق لم يكن من السهل تجاهله. قالت بنبرة فيها شيء من التحدي المغلف بالمرح:
مش هقبل الرشوة بسهولة كدا الموضوع محتاج اكتر من شكولاتة
ابتسم زيدان واقترب خطوة أخرى،
طيب لو قولتلك ان انا مش هنا بس عشان اعتذر انا هنا عشان اعترف بحاجه كنت بخاف اقولها
نظرت إليه مريم وقد بدأت دقات قلبها تتسارع دون إرادة منها، تساءلت بصوت خفيض:
"تعترف بأية
نظر زيدان في عينيها مباشرة، تلك النظرة العميقة التي لا تخطئها أنثى، وقال بنبرة خافتة، لكن كل كلمة فيها كانت تحمل وزن الاعتراف الذي طال انتظاره:
انى كل بشوفك فيها قلبي بيدق اسرع وكل مره بسمع صوتك بحس اني عايز اسمعه اكتر
مريم انا وقعت في حبك من غير ما احس وعايزك تعرفى انك مش بس أخت يونس بالنسبالي.. انتى بقيتى حاجه اهم من كدا بكتير

توقفت مريم للحظة، وقد تملّكها الذهول. قلبها انتفض بين ضلوعها، وعينيها امتلأتا بدموع خجولة، لم تسقط… بل لمعت فقط، وكأنها تعلن سعادتها الخجولة. احمر وجهها من شدّة الارتباك، لكنها أرادت أن تمازحه، تُخفي ارتباكها خلف ستار خفيف من المزاح:
قالت بابتسامة خجولة وهي تلوّح بالكيس في يدها:
طب كنت هستنى قد ايه علشان تقول كدا؟
ابتسم زيدان، وغمز لها بنظرة محمّلة بالصدق وقال:
كنت مستني اللحظة اللي أبقي فيها متاكد.. ودلوقتي متاكد من اى وقت
ساد بينهما صمت جميل… ليس صمتًا فارغًا، بل ممتلئ بالنظرات المتبادلة والنبضات المرتبكة. تلك اللحظة كانت تحمل راحة ناعمة، وكأنهما وصلا أخيرًا إلى النقطة التي كانا يخشيان الاقتراب منها.
قالت مريم بخجل وهي تنظر إلى الأرض:
طب خد بالك… لو الشوكولاتة طلعت وحشة، هغير رأيي فيك!

ضحك زيدان، ضحكة دافئة خرجت من أعماقه، وقال وهو يمدّ يده نحو الكيس:
يبقى نفتحها سوا ونشوف
*********
كان يونس مستلقيًا على سريره، يحدّق في السقف بعينين شاردتين، تتقاطع فيهما الذكريات والخطط والألم. صمته لم يكن فراغًا، بل كان ضجيجًا داخليًا لا يُحتمل. قلبه يثقل بفكرة واحدة تُطوّق عقله: "ماجد وزاهر… كيف سيُنهي الأمر معهما؟"
إلى جواره، جلست عائشة، تمسك يده برفق، كأن لمسة منها قادرة على سحب الألم من جسده. كان وجهها يحمل علامات الإرهاق، والسهر، والقلق الذي لم يغادر ملامحها منذ أن سقط يونس بين الحياة والموت. ورغم كل هذا، كانت تحاول أن تتماسك، أن تُظهر له القوة، لكنها لم تكن قادرة على إخفاء تلك الرجفة الخفيفة في يدها أو ذلك اللمعان المستمر في عينيها.
يونس بصوت هادئ وابتسامة باهتة:
_ شكلي خوفتك قوي، صح؟

نظرت إليه عائشة بسرعة، عيناها تلمعان بدموع حبستها طويلًا، ثم خرج صوتها مخنوقًا بالشجن:
_ خوفتني؟ ده أنا كنت حاسه إن روحي بتتسحب مني… كنت حاسه إني هموت وراك يا يونس.
تأثر يونس بشدة، شعر أن كلماتها تغمره بدفء لم يشعر به منذ زمن. شدّ على يدها برفق، وقال بنبرة دافئة:
_ طب ليه كده يا بنت الناس؟ أنا لسه هنا… قدامك… ما رحتش في حته.
عائشة شدّت على يده بإحكام أكبر، وكأنها تخشى أن يُفلت منها من جديد:
_ بس كنت حاسه إني هفقدك… وكل لحظة كنت فيها بين الحياة والموت، كنت بدعي… وبدعي… لحد ما صوتي راح…
_ كنت بترجا ربنا يرجعك لي… مكنتش متخيلة إنك ممكن تضيع مني كده فجأة.
ساد لحظة صمت بينهما، لم تكن فارغة، بل كانت ممتلئة بما لا يُقال. نظر يونس إليها، بعين يملأها الحزن والامتنان، ثم مدّ يده الأخرى بصعوبة، ولمس خدها برقة وكأنه يطمئن على حقيقة وجودها بجانبه.
يونس بصوت خافت يقطر حنانًا
_ أنا رجعت… علشانك.
اتسعت عينا عائشة بتأثر، وتدفقت دموعها على وجنتيها في صمت. لم تستطع أن تخفي إحساسها أكثر من ذلك، فقالت بصوت يملؤه الاعتراف والخوف معًا:
_ يونس… أنا كنت فاكره إني بقدر أخبي، إني أقدر أتصرف عادي…
تنهدت، وتابعت بصوت مكسور:
_ بس يوم ما وقعت… حسيت قلبي بيقف… حسيت إني مش بس بحبك… أنا مش بقدر أعيش من غيرك.
تحرك يونس بصعوبة، اقترب منها أكثر، وعيناه متعلقتان بها، كأنه يسمع هذا الكلام لأول مرة، أو كأنه انتظره عمرًا.
يونس بصوت أكثر رقة واندهاش
_ بتقولي إيه يا عائشة؟… قوليها تاني.
قالت عائشة بارتباك وخجل، لكن عينيها فضحتا صدق مشاعرها وقوة حبها:
_ بحبك… بحبك من قلبي… من أول لحظة حسيت إنك سندي، وأماني، ودنيتي…
كل لحظة قضيناها سوا علمتني إنك مش مجرد حد في حياتي…
إنت حياتي كلها.
أمسك يونس وجهها بين كفّيه، ينظر في عينيها وكأنهما مرآة لكل أحلامه، وقال بابتسامة دافئة، مملوءة بالعاطفة:
_ وأنا كمان… يمكن عمري ما عرفت أعبر زيك…
بس كل دقة في قلبي بتنطق باسمك…
كل لحظة بين الحياة والموت، كنت بشوفك… كنت حاسس بإيدك، بدعوتك… بحبك.
وكنت بوعد نفسي… لو قومت، أول كلمة هقولها… "بحبك يا عائشة".
ابتسمت عائشة من بين دموعها، واقتربت لتضع رأسها على صدره بحنان، كأنها وجدت أخيرًا مكانها الآمن، الدافئ، الذي تنتمي إليه
عائشة (بهمس):
_ ماتسيبنيش تاني… حتى لو للحظة.

ضمّها يونس بذراعه السليمة، وقال بصوت يملؤه اليقين:
_ عمري ما هسيبك… ده وعد.
لحظة قُطعت بصوت فتح الباب بهدوء.
دخلت مريم، والابتسامة على وجهها، ونظراتها تحمل دفئًا وراحة، وكأنها كانت تراقب هذه اللحظة من بعيد.
مريم (ضاحكة مازحة):
_ يا سلام… ده أنا مش هعرف ألاقي وقت أتكلم معاك يا يونس من كتر ما الناس بتحبك!
نظرت إلى عائشة، وابتسامتها اتسعت:
_ وإنتي يا عروسة، باين عليكي قلبي اتطمن خلاص!
ضحكت عائشة بخجل، ومسحت دموعها بسرعة، قبل أن تتحرك لتجلس بجوار مريم.
عائشة (مبتسمة):
_ الحمد لله… رجع لينا بالسلامة.
بعد لحظات، دخل زيدان، يحمل علبة شوكولاتة صغيرة، وابتسامة كبيرة على وجهه.
زيدان (مقتربًا من السرير):
_ الحمد لله على سلامتك يا بطل… نورت الدنيا كلها.
يونس (بابتسامة يملؤها الإرهاق والامتنان):
_ الله يسلمك يا زيدان… الحمد لله عدت يا صاحبي.
اقترب زيدان أكثر، ونبرته أصبحت أكثر جدية:
_ قابلت اللواء تحت بالمناسبة، كان جاي يطمن عليك، واتكلمت معاه شوية… وكلفني رسمي إنّي أمسك قضية ماجد لحد ما حضرتك تقوم بالسلامة وتستلم مكانك.
نظر إليه يونس بنظرة فخر وثقة، وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه رغم التعب:
_ مسؤولية كبيرة… بس إنت قدها. شد حيلك يا زيدان، ماجد مش سهل… لازم تكون دايمًا سابقه بخطوة.
زيدان (بثقة):
_ متقلقش… أول حاجة هعملها، إني هبعت رجالة تراجع تحركاته من أول وجديد. ماجد مش هيعرف يهرب المرة دي.
يونس (بهدوء):
_ ربنا معاك يا بطل.
في عمق الليل، حيث يسود الصمت الثقيل ويخنق الأنفاس، كانت الزنزانة الضيقة غارقة في ظلال خانقة.
جلس زاهر على طرف سريره الخشبي المهترئ، مسندًا ظهره إلى الحائط البارد، وذراعيه متشابكتين فوق صدره، بينما تتأرجح نظراته في العتمة أمامه. كانت عيناه تلمعان في الظلام، لا من ضوء، بل من حذر متأصل وخطر قادم يستشعره قلبه قبل أن تراه عينه.
لم يكن مرتاحًا… من اللحظة التي تم نقله فيها إلى هذه الزنزانة وهو يشعر بانقباض ثقيل في صدره، شعور مزعج كلسعة خفية لا تختفي. أما السبب الأوضح، فكان هذا السجين الجديد. شاب في أواخر العشرينات، هادئ بصورة مبالغ فيها، لا يتحدث، ولا يتحرك كثيرًا، لكن عينيه لا تفارقان زاهر منذ لحظة دخوله.
كان يراقبه بصمت، بثبات، كأنما يدرس حركته، ينتظر لحظة بعينها.
زاهر التقط من طرف عينه حركة غير معتادة. الشاب نهض من سريره، خطواته كانت خفيفة، أكثر مما ينبغي، وتوجه نحو زاوية الزنزانة حيث وضع زاهر بطانيته المتكوّرة.
همس بصوت منخفض وهو يحدّق في العتمة دون أن يلتفت:
_ يا ترى عايز إيه ده؟ ولا يكون تبع ماجد؟
لم يصله أي رد. الصمت ازداد ثقلاً.
الشاب تابع اقترابه ببطء محسوب، وفي يده شيء صغير، مغطى بقطعة قماش سوداء. وجهه لم يكن واضح المعالم، لكن ما ظهر من عينيه كان كافيًا… برودة قاتلة، كأنها تنذر بنهاية لا مفر منها.
في لحظة، ارتفع الأدرينالين في جسد زاهر، نهض بسرعة مدفوعة بالحذر والخوف، مستعدًا للهجوم أو الدفاع، لكنه لم يكن الأسرع.
الشاب اندفع نحوه بقوة مباغتة.
صرخة مكتومة شقت سكون الليل،
ثم صدام جسدين في الظلام، أنفاس ثقيلة تتلاحق، خبطات سريعة، خناقة دامية تدور في صمت مخيف.
ثوانٍ مرت وكأنها دهر…
ثم… سكون تام.
هدأت الأصوات فجأة. كل شيء توقف. وكأن الزمن نفسه توقف ليلتقط أنفاسه.
على الجانب الآخر من الزنزانة، تحرك أحد المساجين في الزنزانة المقابلة. لفّ رأسه محاولًا التلصص عبر الظلال، عينه تبحث في العتمة عن أي دليل، أي حركة، لكنه لم يرَ سوى ظلين على الأرض:
ظل واقف…
وظل آخر ساقط بلا حراك.
وانتهت الليلة.
لم يصرخ أحد. لم يُسمع صوت إنذار.
لم تُرَ دماء واضحة، ولم تُكشف الوجوه بعد.
لكن مع أول خيط فجر، سيفتح عنبر السجن أبوابه على وقع همسات، وقلوب مشدودة، وعيون تترقب.
وكل واحد منهم هيهمس لنفسه:
زاهر… عاش؟
ولا خلاص… اللعبة خلصت؟ 

"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"

واتسابتليجرام
Raghad Ali
Raghad Ali
تعليقات