رواية خيوط النار الفصل الرابع عشر 14 بقلم نورهان موسي

  الفصل الرابع عشر من رواية "خيوط النار" بقلم نورهان موسي.

رواية خيوط النار الفصل 14 بقلم نورهان موسي

خيوط النار الحلقة الرابعة عشر

خيوط النار
الفصل الرابع عشر

في ردهة هادئة أمام غرفة يونس في المستشفى، جلست عائشة على أحد المقاعد البلاستيكية، جسدها منهك، وملامحها يغلفها التعب والسهر.
كانت عيناها نصف مغمضتين من قلة النوم، وأعصابها مشدودة منذ أيام، لكنها الآن تحاول أن تلتقط أنفاسها، بعدما بدأ الخطر ينحسر عن يونس.
أناملها تشابكت في حضنها، وجبهتها مسنودة على الحائط البارد خلفها، تحاول أن تهدأ، أن تستوعب ما مرّ بها، أن تستجمع بقايا قوتها.
وفجأة، رن هاتفها.
نظرت إليه بتكاسل، زفرت زفرة خفيفة، ثم أجابت بصوت خفيض ومرهق:
– ألو؟
جاءها صوت شهد عبر الهاتف، ناعمًا، مصطنعًا، مغطى بطبقة من الحماس المزيف:
– هااااي عيشووو!
وحشتيني أوي والله… كنت فين؟ موبايلك مقفول على طول وقلقت عليكي جدًا.
رفعت عائشة حاجبها ببرود، ثم ردت بنبرة خافتة يغلفها التعب، دون أي اندهاش أو حماس:
– كنت في المستشفى… يونس اتصاب، حالته كانت خطر، وأنا ما سبتوش لحظة.
صمتت شهد للحظة، تبلع ريقها، ثم تكلمت بنبرة حزينة حاولت أن تبدو صادقة لكنها بدت متكلفة:
– ينهار أبيض!
يونس؟ إزاي؟!
وأنا آخر واحدة أعرف؟! ليه ما كلمتنيش؟!
رفعت عائشة يدها تمسح على جبينها ببطء، كأنها تطرد الصداع أو تحاول أن تتماسك، ثم ردت بهدوء لا يخلو من البرود:
– ما كانش في وقت… أنا حرفيًا كنت بين الدعاء والبكاء.
حاولت شهد أن تبث شيئًا من التعاطف في نبرتها، لكنها كانت مشوبة بتصنع واضح:
– يا قلبي… ده يونس غالي علينا كلنا، ده مش أي حد!
طب طمنيني، هو دلوقتي كويس؟ خرج من الخطر؟
ارتخت ملامح عائشة قليلًا، وصوتها حمل شيئًا من الراحة والامتنان:
– الحمد لله، اتحسن كتير، بس لسه تحت الملاحظة.
تنهدت شهد، لكن تنهدها لم يكن بريئًا، كان بطيئًا، محسوبًا، تحاول من خلاله التسلل إلى قلب عائشة من جديد، ثم قالت بصوت أقرب للرجاء:
– طيب… ممكن تقوليلي أنهي مستشفى؟
أنا مش هرتاح غير لما أشوفك واشوفه بنفسي.
ترددت عائشة للحظات، شكت في نية شهد، لكن إرهاقها منعها من الجدال، فأجابت أخيرًا بصوت خافت:
– مستشفى الشرطة، الدور التاني، أوضة ٢١٠.
ابتسمت شهد على الطرف الآخر من الخط، ابتسامة انتصار خفية لم يسمعها أحد، لكن ملامحها فضحتها وهي تهمس لنفسها:
– تمام يا روحي، أنا جاية فورًا…
لأنك وحشتيني أوي، ومبسوطة إن يونس بخير.
ردت عائشة بفتور شديد وهي تعود لتسند رأسها:

– شكرًا يا شهد.
أغلقت شهد المكالمة، ووقفت لحظات تنظر إلى انعكاسها في مرآة غرفتها، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة، لكنها لم تكن صادقة… كانت تحمل في طياتها خبثًا ناعمًا، ونيّة لا تشبه نوايا الأصدقاء.
همست لنفسها بصوت منخفض وهي تفتح دولابها:
– أخيرًا… قربت.
خليني أشوف يونس بعيني… يمكن الفرصة تيجي لوحدها.
بدأت تختار ملابسها بعناية، تبحث عن شيء أنيق، بسيط لكنه يلفت الانتباه، تمشّط شعرها أمام المرآة بحركات محسوبة، وفي عينيها نظرة مختلفة… نظرة ليست قلقًا على صديقة، بل كأنها مقبلة على معركة خفية.
معركة لا صوت لها، لكن نتيجتها… قد تغير كل شيء.
*****"
في كافيه بسيط يطل مباشرة على بوابة المستشفى، جلس رجل في آخر ركن شبه منعزل، مظهره عادي لا يلفت الانتباه… بنطال جينز باهت، تيشيرت رمادي، وجاكيت خفيف يحجب برد المساء.
أمامَه كوب شاي نصف فارغ، وهاتفه المحمول موضوع بعناية على الطاولة.
لكنه لم يكن يشرب الشاي، ولم يكن ينظر للهاتف…
كانت عيناه مسمّرتين على باب المستشفى، لا تزيغان.
وسط زحام طبيعي – عربات تمر، وناس تدخل وتخرج – لم يكن يرى أحدًا… سوى عائشة.
كل شيء خارج حدود تلك اللحظة كان باهتًا، كأنه مشوّش، لا يعنيه.
رنّ هاتفه.
رفع السماعة بهدوء، وصوته جاء منخفضًا، ثابتًا:
– ظهرت تاني… لابسة نفس الطقم اللي لبسته أول امبارح… شكلها مابترجعش بيتها كتير، واضح إنها قاعدة معاه.
جاءه صوت ماجد من الطرف الآخر، هادئًا كما تعوّد، لكن نبرته هذه المرة كانت تحمل نكهة السيطرة، وكأنه يُدير لوحة شطرنج لا خصم فيها:

– تمام… كمل. كل تفصيلة تفرق.
مين بيزورها، بتقابل مين، بتخرج امتى…
أنا عايز أعرف نبضها قبل ما هي تحس بنفسها.
ضحك الرجل بخفة، ضحكة ساخرة نابعة من ملل أو دهشة:
– ما هي تقريبًا ما بتتنفسش من غيره… قاعدة له زي ظله.
لا بتهزر، لا بتضحك…
عايشة له وبس.
ماجد على الطرف الآخر، أطلق ضحكة مكتومة قصيرة، لكن وراها شيء… شيء موجِع:
– حلو… ده معناه إن الضربة الجاية هتوّجع.
أنا مش بس عايز أوجعها…
أنا عايز أعلّم فيها لسنين.
لو شوفت التعب اللي شُفته بسببها، كنت فهمت.
رفع الرجل حاجبه في فضول، ونبرته اتخذت طابعًا إنسانيًا نادرًا:
– بس… هي عملت فيك إيه؟
دي شكلها مسكينة
ماجد صمت لثوانٍ، وكأن السؤال أيقظ داخله وحش نائم.
ثم نطق بصوت حاد، مشحون بالغضب والكراهية:
– مفيش مسكينة وهي قاعدة تاخد اللي مش ليها.
هي السبب… في كل حاجة.
بس مش هحكيلك…
أنت دورك تراقب، وأنا عليا الباقي.
ا عدّل جلسته، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم أعاد نظره إلى مدخل المستشفى، حيث ظهرت عائشة خارجة بخطى متعبة، تتجه نحو سيارة توصيل تقف أمام الباب.
كان وجهها شاحبًا، الإرهاق بادٍ على ملامحها، لكن في عينيها بريق صامد…
بريق امرأة قررت ألا تنهار.
تمتم الرجل، كأنه يحدث نفسه أكثر من ماجد:
– شكلها تعبانة… بس ماسكة نفسها.
بقالها يومين بنفس الحال.
لا صحاب، لا ضحك، لا حياة…
بس الغريبة إنها أقوى مما كنت فاكر.
جاء صوت ماجد هذه المرة منخفضًا، باردًا كالسُم، محمّلًا بخبث واضح:
– القوة دي هتتكسر قريب…
أنا مش بلعب يا صاحبي،
أنا راجع آخد حقي… وبالزيادة.
خليك قريب… قريب قوي…
وأول ما أقولك، تبدأ اللعبة.
ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة، فيها شيء من التحدي، وفيها شيء من التسلية:
– مفهوم…
وما تقلقش، مش هتعدي عليا لحظة من غير ما أعرف هي فين وبالضبط بتعمل إيه.
انتهت المكالمة، وعاد الصمت يلفّ ركنه.
رفع كوب الشاي بهدوء، ارتشف منه رشفة صغيرة، وعيناه لا تزالان مسلّطتين على المستشفى…
كأنها ساحة معركة لم تبدأ بعد، وهو ينتظر إشارة البدء.
في جناح معزول داخل مستشفى عام مخصص لنزلاء السجون، كان كل شيء يبعث على الخوف…
الصمت يخنق الجدران، إلا من صوت واحد يصرّ بعناد: جهاز رسم القلب، بنغمته الرتيبة، وكأنّه يقاوم الموت لحظة بلحظة.
الضوء الأبيض الباهت يتدلّى من السقف كأنه شبح، ينعكس على وجه زاهر الشاحب كأنّه صفحة مطفأة من كتاب العمر.
جسده الهزيل غارق بين الأسلاك والأنابيب، أنفاسه بطيئة ومتقطعة، وعيناه نصف مفتوحتين، تدوران بتعب كأنهما تبحثان عن مخرج… أو خلاص.
وفي لحظة هشّة بين الحياة والموت، تحرّكت شفتاه الجافتان، وخرج صوته مبحوحًا، بالكاد يُسمع، مشقوق من الألم والندم:
– حد… حد ينده للّواء عز الدين … محتاج أتكلم معاه… بسرعة.
الممرضة، التي كانت تراقب حالته عن بُعد، انتفضت كأنّ صاعق كهربائي صدمها.
الدهشة والخوف اتجمعوا في ملامحها، وركضت خارج الغرفة كأنها تركض لتسبق الموت.
بعد لحظات، سُمِع صوت خطوات سريعة تقترب… خطوات لا تحمل قلقًا فقط، بل تحمل جمر الأسئلة والشكوك.
دخل اللواء عزالدين، ببدلته الرسمية، لكن هيبته المعتادة كانت مكسورة بشيء خفي… شيء ثقيل في عينيه وملامحه المشدودة.
وقف عند مدخل الغرفة لثوانٍ، يتأمل زاهر كأنه يراه للمرة الأولى، ثم اقترب ببطء… بحذر… بترقب كأنّ أمامه قنبلة على وشك الانفجار.
اللواء بصوت حازم، لكن ملامحه لم تكن كذلك: – فوقت يا زاهر؟
كنت فاكر إنك مش هتفوق تاني.
حاول زاهر ان يبتسم، لكنه فشل.
عينيه كانت مليانة وجع… مش وجع جسد، لكن وجع أرواح محروقة بالخطايا.
نظر لعزالدين نظرة خالية من التحدي… مليانة ضعف، وخجل، وانكسار.
بصوت متقطع، متكسر، خرجت الكلمات كأنها نزيف من داخله:
– أنا… أنا تعبت…
ضميري واجعني…
ومبقاش عندي حاجة أخبّيها…
أنا عايز أقول كل حاجة… قبل ما أموت.
تقدّم عز الدين أكتر، ملامحه ازدادت تيبسًا، لكن في عينيه انعكست لهفة رجل سمع أخيرًا ما كان ينتظره…
أشار للممرضة أن تغلق الباب وتتركهم، ثم جلس بجانب السرير، منحنيًا قليلًا نحو زاهر، كأنه يستعد لاعتراف سيُبدّل موازين كل شيء.
– قول يا زاهر…
إنت فاضل ليك كتير من اللي ما اتقالش.
بلع ريقه بصعوبة، أغلق عينيه للحظة كأنه يستجمع قوة اعتراف ثقيل، ثم فتحها وبدأ يحكي…
كل كلمة كانت تخرج محمّلة بثقل عمر، بندم صامت، وذكريات ملوّثة بالدم والخيانات:
– السلاح… في مزرعة قديمة في الصحرا… تبع واحد اسمه متولي الضو…
إحنا بنخزن هناك، ونهرّب على فترات.
– اللي معايا؟… كُـتار…
بس أهمهم ماجد… وأبوه…
آه، أبوه…
شريكنا من سنين طويلة، وابنه كمل المشوار.
– والمخدرات؟…
بتيجي من واحد تبعنا في المينا…
بيطلّعها في حاويات قطع غيار…
وكل حاجة بتتوزع عن طريق شبكة عربيات ملاكي…
محدش يشك فيهم… ولا حد قدر يقرّب.
بدأ عز الدين فى التسجيل خلف زاهر
عينه ما بين الورقة وزاهر، عقله يركض بسرعات خرافية، يربط بين أسماء وأماكن وبلاغات قديمة لما تكن واضحة لكن الان بدا كل شيء فى الوضوح جيدا
ليردف عز الدين بصوت أكثر جدية
– كمّل يا زاهر…لسّه كتير.
بدأت عينا زاهر تلمعان بدموعٍ ثقيلة، لم تعد نظراته ثابتة، بل راحت تهرب في كل اتجاه وكأنها تبحث عن مخرج من داخله. صوته لم يعد مجرد حكاية تُروى، بل صار نزيفًا صادقًا لضميرٍ مُثقل بالذنب، يتدفق من حنجرته بحرقة، كأن كل كلمة يلفظها تمزّق شيئًا في قلبه.
كان صوته يرتجف، تتخلله شهقات مكتومة، ووجهه يشحب شيئًا فشيئًا مع كل اعتراف، وكأن الذكريات تحفر أنيابها في داخله دون رحمة.
أما من أمامه، فتباينت ردود أفعالهم؛ أحدهم قبض على قبضته بقوة وكأنّه يقاوم رغبة في الانفجار، وعيناه تشتعلان بالغضب والأسى. آخر كان ينظر إلى زاهر بدهشة مشوبة بالحزن، وكأن الحقيقة فجّرَت داخله براكين من الأسئلة التي لم تجد طريقًا للخروج. الصمت خيّم عليهم جميعًا، لكن داخل كلٍّ منهم كانت هناك عاصفة لا تهدأ.
الكلمات التي خرجت من فم زاهر لم تكن مجرد جمل، بل كانت طعنات… في نفسه أولاً، ثم في قلوب من يستمعون إليه. نزيفه لم يكن دماً، بل ندمًا، ندمًا يسكن ملامحه، ويتغلغل في كل نبرة من صوته المرتجف.
– محمد الجابري…
عبده الصمد الجابري… أخوه.
قتله هو ومراته من سنين…
حادثة متغلفة بالصدفة… بس كانت مقصودة.
دلوقتي… ابنه رجع…
انتقم… حرق البيت بعد ما قتل ولاد عمه جواه.
كانوا فاكرين نفسهم محصنين…
بس أنا عرفت… وسكت.
– كنت جبان…
شفت كل حاجة، ورضيت…
بس دلوقتي؟
مش فارقلي أعيش ولا أموت…
أنا بس… عايز الحق يرجع.
تجمّد اللواء ساهر في مكانه، وكأن الأرض سُحبت من تحت قدميه. راحت الصدمة تتسلل إليه ببطء، تخترق نظراته، تتغلغل في جسده، وتخنق صوته قبل أن يخرج. ما سمعه لم يكن مجرد اعتراف عابر… كان زلزالًا عنيفًا، يهز أركان كل ما كان يظنه ثابتًا، زلزالًا يوشك أن يهدم بيوتًا شُيّدت على أسرار، وأن يُسقط أقنعة توارت خلفها وجوه ادّعت الاحترام لعقود.
أغمض عينيه بقوة، كمن يحاول أن يُخمِد عاصفة تشتعل في داخله، وأن يحبس وجعًا مريرًا يعتصر صدره. ارتعشت أنفاسه، وارتجف صوته وهو يهمس، بصوتٍ مبحوح خرج من عمق الألم
_الكلام اللي قلته ده… هيغيّر كل حاجة… وهيكون بداية نهاية ناس كتير.
ساد الصمت بعد كلماته، لكن الصدى ظلّ يتردّد داخله كقرع أجراسٍ في مقبرة قديمة، كل جملة نطق بها كانت كأنّها تفتح جرحًا جديدًا، وتُميط اللثام عن خيانات دفنتها السنين تحت ركامٍ من الثقة الزائفة.

ابتسم زاهر ابتسامة واهنة، لم تكن ابتسامة فرح، بل كانت مزيجًا غريبًا من وجعٍ متجذّر، وراحةٍ مريبة. كأنه أخيرًا ألقى بالحمل عن كتفيه، وأسقط ذنوبه من على صدره المثقل. عيناه كانتا شاردتين، كأنّه يرى ما لا يُرى، وكلماته الأخيرة خرجت هامسة، واهنة، كأن روحه كانت تذوب مع كل حرف يتفلت من شفتيه المرتجفتين:
– أنا… ريّحت قلبي…
قولهم إني آسف…
ونفسي… ربنا يسامحني.
وفجأة… سكت.
توقّف الصوت.
بدأت نظراته تفقد بريقها، تهرب من الحياة شيئًا فشيئًا، وجهاز رسم القلب أمامهم… نغمتُه التي اعتادوا انتظامها بدأت تضعف، تتباطأ، تترقّق…
نبضة…
ثم نبضة…
ثم… صمت.
صرخ عز الدين بصوتٍ مزّق جدران الغرفة، صوتٍ لم يعرفه من قبل، وكأن ما بداخله انفجر دفعةً واحدة:
– اندهوا للدكتور حالًا!
حالته بتدهور!
دخلت الممرضة على الفور وهي تنادي الطبيب بقلقٍ ظاهر، وبدأ الطاقم الطبي في التحرك السريع، أصوات الأجهزة ارتفعت، خطواتٌ تتسارع، أوامرٌ تُطلق.
أما عز الدين … فظلّ واقفًا على الجانب، عاجزًا عن الحركة، كأن الزمن توقف عنده. عيناه لم تترك وجه زاهر، وكأنّه يحاول أن يحفظ ملامحه الأخيرة. الرجل الذي مات وهو يحاول، لأوّل مرة، أن يعيش حياةً نظيفة.
لكن السؤال ظلّ معلقًا في الهواء، بلا إجابة…
هل كفّر فعلًا عن ذنبه؟
أم أن تلك اللحظة، بكل صدقها وألمها… جاءت متأخرة جدًا؟
********
كان يونس جالسًا على السرير، ملامحه مرهقة، وجهه شاحب من أثر الإصابة والتعب، لكن في عينيه شيء مختلف…
إصرار هادئ، عناد واضح، كأنّه يُراهن على آخر أوراقه في لعبة مصيرية.
بقربه كانت مريم واقفة، تراقبه بقلق، بينما جلست خالته على الكرسي الجانبي، تمسح على يد يونس من حين لآخر وكأنها تحاول أن تهده من الداخل.
صمت قليل، قطعه صوت يونس بهدوء عميق، يخفي تحته عاصفة مشاعر:
ـ أنا عايزك تساعديني في حاجة… وعايز خالتي تكون معانا فيها.
اقتربت مريم، وملامح القلق تتكاثف في عينيها:
ـ خير يا يونس؟ في إيه؟
تحولت نظرة يونس ناحية خالته، وصوته اكتسب طبقة من الجدية:
ـ عايز أكتب كتابي على عائشة… دلوقتي.
خالته انتفضت كأنّه صدمها، وقالت بسرعة، بعفوية ودهشة:
ـ إنت بتقول إيه يا واد؟ لما تقوم بالسلامة وتخرج الأول… نبقى نجهز كل حاجة براحتنا، ليه الاستعجال ده؟
هزّ يونس رأسه بإصرار، لم يتراجع، بل ازدادت نبرة تصميمه قوة:
ـ لأ، لازم دلوقتي. ماجد مش هيهدى، وأنا متأكد إنه بيحاول يقرب منها بأي طريقة… ومش عارف ممكن يعمل إيه.
لازم أربطها بيا رسمي، وأحميها… دي خطوتي الأخيرة في اللعبة دي.
لحظة صمت قصيرة، شعرت مريم فيها بقوة قراره، قلبها خفق بشدة، وامتلأت نظرتها بإعجاب لم تستطع إخفاءه.
هو لم يكن مجرد شاب جريح… بل رجل، يقاتل من أجل من يحب، حتى في أضعف لحظاته.
قالت مريم بابتسامة خفيفة، ونبرة دعم صادقة:
ـ وأنا معاكو في أي حاجة… قولي عايزني أعمل إيه.
تنفّس يونس بعمق، وكأن كلمتها أعطته دفعة جديدة، ثم قال بثقة:
ـ أنا هجهز كل حاجة مع زيدان وعمر، وخالتي تروح مع عائشة البيت تقول لها تغير هدومها، وانتي كمان تروحي معاهم عشان تساعدوها.
بس من غير ما عائشة تعرف حاجة.
ترددت الخالة قليلًا، لا زالت تشعر بالقلق من حالته، لكن عينيها كانت ممتلئة بحب الأم وحنانها، قالت:
ـ طيب يا حبيبي… بس على شرط، أول ما تكتب الكتاب وتطمن، تركز في علاجك وتقوملي بالسلامة.
ابتسم يونس أخيرًا، كانت ابتسامة هادئة، لكنها صادقة:
ـ وعد يا خالتي.
مدّ يده بتعب نحو هاتفه، وضغط على الرقم المحفوظ، ثم قال فورًا بعد ما رد عليه الطرف الآخر:
ـ أيوه يا عمر، محتاجك تجيلي حالًا… وجيب معاك زيدان، عندنا موضوع مهم.
مرّت نصف ساعة
دخل عمر وزيدان الغرفة بسرعة، العيون مليانة تساؤلات، وقلق واضح مرسوم على الوجوه.
قال يونس، بصوت فيه نبرة ثقة ما اهتزتش رغم كل الألم:
ـ محتاجكم شهود على جوازي من عائشة… الموضوع سر ومش عايز حد يعرف، بس أنا مش قادر أستنى أكتر من كده.
زيدان اتفاجئ، وبص ليه باندهاش:
ـ دلوقتي؟! إنت لسه طالع من أزمة ومتصاب!
رد يونس بحزم، نبرته ما فيهاش نقاش:
ـ بالظبط… أنا مش عايز أزمة تانية تحصل، ولا عايز أندم إني اتأخرت.
لو بتحبوني، خليكوا جمبي دلوقتي.
مدّ عمر إيده، وحطها على كتف يونس بلطف:
ـ إحنا معاك يا صاحبي… في أي حاجة.
ابتسم يونس له بامتنان، ثم قال:
ـ عايزك تشوف المأذون وتظبط معاه كل حاجة، ودي بطاقة عائشة، وظبط الورق… والنهارده هتكون عائشة مراتي، كلها ساعتين وهترجع.
هزّ عمر رأسه بالموافقة، أخذ الأوراق، وخرج مع زيدان فورًا عشان يبدأوا الترتيبات.
أما الخالة، فكانت لحظتها تتحوّل من القلق إلى المشاركة.
أمسكت يد عائشة، وابتسمت ابتسامة خبيثة فيها دفا:
ـ يلا يا بنتي، روحي غيري هدومك… في مفاجأة حلوة مستنياكي.
نظرت لها عائشة باستغراب، وهي تضحك برهبة:
ـ مفاجأة إيه يا خالتي؟ إنتو مخبين عليا إيه؟
ضحكت الخالة بخفة، وسحبتها بلطف وهي بتقول:
ـ ما تقلقيش… بس خليكي جاهزة. يومك النهاردة مختلف.
صعدت عائشة معهم إلى البيت، خطواتها كانت هادئة لكن داخلها يعجّ بعاصفة من التساؤلات… في قلبها ألف علامة استفهام تتزاحم، تصطدم ببعضها، تبحث عن إجابات لم تُكتَب بعد.
ورغم كل هذا… كانت تبتسم.
ابتسامة خفيفة، هادئة، لا تخلو من التوتر… لكنها صادقة.
ابتسامة لم تأتِ من عقلها المُثقل، بل من إحساسٍ داخلي نقي، كأن قلبها وحده كان يهمس لها: "اللي جاي… يمكن يكون بداية جديدة."
ما كانتش عارفة البداية دي شكلها إيه، ولا هتمشي في أي طريق…
بس كانت حاسّة إن اللحظة دي، تحديدًا، نقطة فاصلة، لحظة بين نهاية موجعة… وبداية مجهولة، يمكن تكون أهدى، أنضج، وأصدق.
*********
في غرفة يونس…بعد مغادرة الجميع
كان الهدوء يلف المكان كستارة ثقيلة تخنق الأنفاس. الضوء خافت، يكاد لا يُرى، والجدران تبتلع أي صوت. وحدها خطوات خفيفة، مترددة، كسرت هذا الصمت… خطوات شهد، وهي تفتح الباب بهدوء وتحاول ألا تُحدث ضجة.
عيناها كانت تتحرك بتوتر، تبحث عن وجهه وسط العتمة.
وجدته… مستلقيًا على السرير، ملامحه مرهقة، عينيه مغلقتان، يتنفس ببطء تحت تأثير التعب والدواء. كان يبدو ضعيفًا، هشًا… لكن مهابًا رغم كل شيء.
أغلقت الباب خلفها ببطء، كأنها تغلق العالم كله وراءها، ثم سارت على أطراف أصابعها نحوه، وقلبها يخفق بجنون.
اقتربت منه، وهمست بصوت منخفض، مرتعش بالاشتياق:
– حبيبي… ألف سلامة عليك.
مدّت يدها المرتعشة، لمست أطراف أصابعه بحذر، كأنها تلمس شيئًا ثمينًا لا يُقدّر بثمن، ثم انتقلت إلى وجهه، تتحسس ملامحه بلهفة…
كانت نظرتها مملوءة بالشوق، لكنه لم يكن شوقًا نقيًا، بل شوقًا أنانيًا، حارقًا، مشوشًا.
فجأة… فتح يونس عينيه!
ارتبك، حدق فيها بدهشة، ارتسمت علامات الصدمة على وجهه، ثم انتفض جسده بسرعة، كأنّه يطرد شيئًا نجسًا اقترب منه.
صرخ بصوت عالٍ، ممزوج بالغضب والرفض:
– انتي اتجننتي؟! بتعملي إيه؟!
تجمدت شهد لحظة، سُحبت يدها المرتجفة بخجل مصطنع، لكن عيناها لم تخجل، كانت ما زالت مليئة بالجرأة، والرغبة في امتلاك ما لا يُمتلك.
اقتربت منه ثانية، وكأنها تتحدى رفضه، وقالت بنبرة ناعمة، تتصنع الضعف:
– يونس… حبيبي، ألف سلامة عليك، أنا كنت هموت من القلق عليك…
مين اللي عمل فيك كده؟ أنا قلبي كان بيتقطع.
ابتعد يونس قليلًا، استند بظهره على الوسادة، ووجهه لا يزال مشدودًا بعدم تصديق.
كانت ملامحه تتقلب ما بين الذهول والغضب… وكأنّه لا يعرف من تكون هذه الواقفة أمامه.

قال بنبرة حادة، لا رحمة فيها:
– هو في إيه؟! انتي بتقولي إيه؟! "حبيبي" إيه وزفت إيه؟!
مين سمحلك تدخلي هنا أصلًا؟!
انتي تخطيتي كل حدودك.
ارتجفت ملامح شهد، لكن مش من الخجل… بل من الغِلّ.
رفعَت رأسها، وعيناها تتوهج بجنون دفين، وانفجرت صرخة خرجت من أعماقها، كأنّها تحرق ما بقي من اتزانها:
– قلبي!
قلبي هو اللي سمحلي يا يونس!
أنا بحبك، وماقدرش أعيش من غيرك!
بحبك أكتر منها، أكتر من أي حد!
عائشة دي حقودة، دايمًا بتحاول تاخد مني كل حاجة… حتى انت!
من أول يوم عرفت إني بحبك… وهي قررت تخطفك مني!
بس أنا مش هسيبك… انت ليا أنا… أنا اللي حبيتك الأول!
اتسعت عينا يونس، كأنّه يرى أمامه مَن لم يعرفه قط.
حرك رأسه ببطء، وكأنّه لا يصدق أنّ هذا الجنون خرج من شخص
ثم انفجر بصوت عالٍ، مزيج من القهر والغضب:
– بس كده؟!
انتي فعلاً اتجننتي!
انتي جاية هنا تعملي إيه؟! تلمسي وشي؟ وتغري فيا؟!
انتي متعرفيش غير الغِلّ والحقد…
برا… برا يا شهد قبل ما أطلب الأمن يطلعك!
وقفت شهد في مكانها، مصدومة… شفتيها ترتجفان، وعيناها امتلأتا بالدموع، لكنها لم تكن دموع ندم… بل دموع قهر، وغليان داخلي لا يُطفأ.
حاولت تتكلم، لكن صوته سبقها، أعلى من كل شيء، قاطعًا كل فرصة:
– بقولك برااا!
أنا مش عايز أشوف وشك هنا تاني!
ولا حتى في حياتي… ولا في حياة عائشة! فاهمة؟!
لم تعد قادرة على المقاومة. استدارت فجأة، وخرجت بسرعة من الغرفة، وأغلقت الباب بعنف خلفها، كأنّها تُعلن عن هزيمتها بانفجار.
أما يونس، فبقي في مكانه… يتنفس ببطء، أنفاس مثقلة بالصدمة، قلبه يخبط في صدره بقوة، ليس فقط من ما حدث، ولكن من الحقيقة التي تكشفت أمامه.
الهدوء عاد من جديد… لكن هذه المرة، لم يكن مريحًا.
كان ثقيلاً، مظلمًا، يحمل داخله سؤالًا واحدًا:
"هيفضل إزاي يقول لعائشة… إن أقرب صاحبة ليها طلعت بتغلي من جواها، وكل اللي بينهم كان كذبة؟"
********
في اللحظة نفسها…
كان هناك ظل خافت يقف في الممر خارج غرفة يونس، يراقب كل ما يحدث من خلال فتحة صغيرة في الباب، لم يره أحد… ولم يشعر به أحد.
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجه ماجد، وهو يهمس لنفسه، صوته بالكاد يُسمع، لكنه كان مملوءًا بالشر:
– كنت جاي اقتلك… بس الظاهر إن اللعبة بقت أحلى.
اللي حصل دلوقتي ده… كنز.
وأنا عندي اللي يجيبك يا عائشة لحد رجلي.
وآهو بالمرة… ألعب شوية مع الجميل ده.
ثم تراجع بخفة، وبدأ يسير في الممر دون صوت، كأنّه ظل يذوب في الظلام.
في نفس التوقيت…
خرجت شهد من غرفة يونس، ودموعها تنهمر بصمت على وجنتيها، قلبها ينزف، وكل خلية فيها تصرخ بالألم. لم تكن قادرة على التنفس، مشاعر القهر والخذلان تعصرها من الداخل.
نزلت الدرج مسرعة، كأنّها تهرب من نفسها، ومن كل شيء.
اتجهت إلى الحديقة الصغيرة بجوار مدخل المستشفى، وجلست على مقعد خشبي، ودفنت وجهها في كفيها، وانطلق بكاؤها… مكتومًا، موجعًا، مكسورًا.

من خلف الأشجار، اقترب ماجد بخطوات هادئة محسوبة، كصياد محترف يعرف جيدًا فريسته.
أخرج منديلاً من جيبه ومدّه لها، وهو يتحدث بنبرة ناعمة، تنضح بالمكر:
– اتفضلي… واضح إنه طلع ماعندوش ذوق.
هم كده… الناس لما يلاقوا حد بيحبهم بجد، يذلوه.
بس ده ما يمنعش إن لسه في فرصة… ودايمًا في أمل ترجعي حبك ليكي تاني.
رفعت شهد وجهها ببطء، اندهاش واضح في ملامحها، نظراتها متشككة، ويدها امتدت بتردد لأخذ المنديل.
مسحت دموعها بسرعة، وقالت بنبرة فيها ارتباك وشك:
– هو انت بتكلّمني أنا؟
ابتسم ماجد، وبدت نظراته واثقة، مُحكمة، كلها نية مبيتة، وأجاب بنبرة هادئة وملغومة:
– أيوه… بكلمك انتي.
مش انتي شهد؟ حبيبة الظابط يونس؟
واللي لسه كاسر قلبك قدامه من شوية؟
وكل ده بسبب مين؟… عائشة.
انقبض وجه شهد، حاجباها انعقدا بتوتر، حدسها ينذرها أن هذا الرجل وراءه شيء، أن هذه الكلمات ليست عابرة.
قالت بحذر:
– انت عايز مني إيه؟
وازاي عرفت كل الكلام ده؟
اقترب منها أكثر، وجلس بجانبها على الكرسي المقابل، لا يزال محافظًا على نبرته الهادئة، وصوته المملوء بالثقة:
– أنا عايز نتفق…
نتفق على كل حاجة.
نظرت له شهد باستغراب، تساؤلاتها تتزاحم في عقلها، قلبها ما زال ينبض بالخذلان، لكنها لا تستطيع إنكار الفضول الذي بدأ يتسرب إلى داخلها.
قالت بنبرة مشحونة بالشك:
– نتفق على إيه؟ وضّح كلامك.
ابتسم ماجد، وأدار وجهه للأمام، واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وظهره مستقيم، كأنّه واثق أنه يملك مفاتيح اللعبة:
– نتفق إزاي ترجعي يونس ليكي.
أنا أقدر أطيرلك العصفورة اللي واقفة في طريقك…
وبلمح البصر كمان.
وساعتها الطريق هيبقى فاضي قدامك… ليكي وليه بس.
صمتت شهد للحظة، قبل أن تركز نظراتها عليه، وشيء ما بدأ يتحرك في داخلها…
الغيرة… الغضب… الجرح القديم الذي لم يُغلق.
قالت بصوت خافت، لكنه يحمل شحنة من الحقد:
– وانت هتستفاد إيه؟
إيه مصلحتك في إنك تبعد عائشة عن يونس؟
بدت ملامح ماجد أكثر حدة، واختفت ابتسامته الماكرة، ليظهر الغِلّ الدفين في نبرته، وعيناه تلمعان بوميض الانتقام:
– أولها… إن كل فلوسي اللي باسمها ترجعلي.
شقايا وتعب سنين اتكتب باسمها، بسبب غباء جدي اللي ورّثها كل حاجة وهو حتى ما شافهاش!
ساعديني أخلص منها… وهساعدك توصلي ليونس.
ترددت شهد، داخلها صراع عنيف… بين ما تبقى من منطق، وما يشتعل في قلبها من رغبة في الانتقام.
قالت بنبرة حائرة، عقلها يحاول أن يوازن:
– طب… وأنا إيه اللي يضمني؟
ما تضحكش عليا وتكمل خطتك لوحدك؟
ضحك ماجد، ضحكة قصيرة تحمل في طياتها الخبث كله، ونظر لها نظرة من يعرف كيف يحرك الأحجار في رقعة الشطرنج:
– خدي كل الضمانات اللي انتي عايزاها…
بس قوليلي، انتي مش نفسك تنتقمي؟
مش نفسك تحسي إنها هي اللي خسرت… مش انتي؟
تسمّرت نظراتُ شهد عليه، لم تَرمش، ولم تَحِد عنه، وكأنّ عينيها وحدهما تتولّيان محاكمته.
كلّ الغلّ الذي حاولت كتمانه طويلًا، تفجّر في عينيها دفعة واحدة، في رعشة يديها، وفي شهقةٍ اختنقت بها دون أن تخرج.

شعرت بأنّ النار المشتعلة في صدرها تزداد اشتعالًا، وأنّ كلماته، دون أن يدري، كانت تخرج بصوتها…
ذاك الصوت الذي لم تعرفه من قبل، صوت الألم، والانكسار، والخذلان، والاحتراق بصمت.
نظرتها كانت كالسكاكين، وكل حدّة فيها تصرخ في صمت: "لماذا؟"
لكنّ لسانها بقي عاجزًا عن النطق…
إذ كان ما قيل في عينيها، أقوى من أيّ كلمة يمكن أن تُقال.
ثم قالت ببطء، وكل حرف يخرج منها كأنّه سكين:
– لا…
أنا مش عايزه ضمانات.
أنا عايزه حاجة واحدة بس…
إن يونس يبقى ليا في الآخر…
ولو ما حصلش… ورب الكعبة، ههدّ كل حاجة فوق دماغك.
ابتسم ماجد، ابتسامة المنتصر، الذي رأى الفخ يُغلق على فريسته دون أن تشعر:
– خلاص… اتفقنا.
نتقابل النهاردة في شقتي…
ونتفق على كل حاجة.
هزّت شهد رأسها بتأكيد، عيناها تتوهج بشهوة الانتقام، وداخلها بركان لا يهدأ…
أصبحت ترى أن الطريق إلى يونس يبدأ من تدمير عائشة، بأي ثمن.
أما ماجد، فجلس ينظر لها نظرة جانبية طويلة…
نظرة رجل يعرف أنه يُحرك بيادقه كما يشاء، وأن سذاجتها ستوصله لهدفه، دون أن تدرك أنها ليست سوى ورقة في لعبته.
********
دخلت عائشة الغرفة بصحبة مريم والخالة، وما إن وضعت قدمها داخلها حتى تجمدت في مكانها، ملامح وجهها انعقدت بين الدهشة والحيرة…
المأذون كان جالسًا أمام يونس، وحوله جلس كل من اللواء، وعمر، وزيدان على الكراسي الجانبية، والكل بدا عليه الترقب والانتظار للحظة بعينها، كأن الزمن كله توقف ليشهد هذه اللحظة.
نطقت عائشة بدهشة، وهي تلتفت حولها بعينين زائغتين: –
هو في إيه؟!
يونس ابتسم لها، وحنان العالم كله كان مرسومًا على وجهه، نظر إليها بنظرة دافئة، وقال بصوت هادئ مليء بالحب: –
تعالي قعدي جنبي يا عائشة… عايز أكلمك لوحدنا.
رمق الحضور بعضهم بنظرات صامتة، ثم نهضوا بهدوء وغادروا الغرفة كما طلب، لتظل عائشة واقفة وحدها أمامه، قلبها يدق بعنف، ونبضها يعلو كأنها في حلم لا تدري كيف بدأت مشاهده.
مد يده نحوها، بلمسة حانية تشبه الأمان، فاقتربت بخطوات مترددة، وقلبها يرتجف بين ضلوعها، وجلست بجواره.
نظر إليها نظرة ثابتة، وقال بصوت يحمل كل صدقه: – بتحبيني؟

عائشة رفعت وجهها إليه، بعينين تمتلئان حبًا وامتنانًا، وقالت بثقة وهدوء: –
أكيد يا يونس… أنا خلاص ما ليش غيرك في الدنيا.
تنفّس يونس بعمق، وكأن قلبه وجد الطمأنينة التي ظل يبحث عنها، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة دافئة وقال: – يبقى لازم نتجوز دلوقتي… أنا مش هرتاح غير وإنتِ مراتي. أنا شايف إن مافيش داعي نأجل… كل حاجة جاهزة.
اتسعت عيناها بدهشة خفيفة، وقالت وهي تحاول استيعاب الأمر:
– طب ما نستنى لما تقوم بالسلامة وتخرج؟
شدّ على يدها بلطف، ونبرته كانت حسم واطمئنان: –
لأ… قلبي مش هيكون مطمّن وإنتي بعيد. أنا عايزك تبقي في أماني دلوقتي… وتحت اسمي.
وفي تلك اللحظة، غمرها شعور لا يوصف… مزيج من الحب، والدهشة، والفرح، والدموع التي احتبست طويلًا في عينيها انسابت دون مقاومة، بينما أومأت برأسها في صمت، موافقة، لكن عينيها قالت كل شيء.
تم عقد القران.
أصبحت عائشة على اسمه…
رغم الفرحة، كانت عيناها تبحثان عن وجوه أهلها، تتمنى لو كانوا معها في تلك اللحظة التي انتظرتها عمرًا، فلاحظ يونس الحزن العابر في ملامحها، ضغط على يدها بلطف وقال بصوت خافت: –
أنا هنا… وهفضل هنا… مش هسيبك لوحدك أبدًا.
كانت مريم تتابع المشهد ودموع السعادة تملأ عينيها، نظرت إلى أخيها زيدان، فبادلها بابتسامة واسعة وغمزة خفيفة، وقال بمزاح خفيف: –
عقبالك يا عروسة.
احمر وجهها خجلًا، وخفضت نظرها وخرجت سريعا من الغرفة، أما زيدان فوقف واتجه ناحية يونس بخطوات ثابتة، وقال بنبرة جدية تحمل حبًا وصدقًا: – بقولك إيه يا يونس… أنا عايز أخطب مريم.
شهقت بدهشة، وقالت بصوت متعجب ومليء بالمشاعر: –
تخطب مريم دلوقتي؟! هو في إيه! العيال كلها عايزة تتجوز مرة واحدة!
ضحك الجميع على تعليقها العفوي، وقال زيدان وهو يضحك: –
مليش دعوة… هي جت عليا يعني؟
ردت الخالة بفرح وهي تنظر له بعين راضية:
– والله إحنا مش هنلاقي أحسن منك… بس أكيد لازم نسألها الأول.
ابتسم زيدان وقال بثقة: –
تمام… هستنا ردها.
كان عزالدين يراقب المشهد بنظرة فخر، وهز رأسه موافقًا وقال: –
أنا واثق إنك هتكون نعم الراجل ليها يا زيدان… ومريم بنت تستاهل كل خير.
أما يونس فنظر إلى زيدان، والفرحة تغمر ملامحه: – وأنا كمان مطمن… لأنك راجل، وهتحافظ على أختي.
في تلك اللحظة، عادت مريم وهي تحمل صينية بها مشروبات، توقفت فجأة عندما شعرت بعيون الجميع تتجه نحوها، احمر وجهها ثانية، وارتبكت.

اقترب زيدان منها وقال ليونس: –
ممكن آخد مريم أكلمها شوية لوحدنا؟
ضحك يونس وقال: –
طبعًا… روحوا، بس ما تتأخروش.
خرج زيدان معها، وقف أمامها، وعيناه تحملان كل الصدق والحب، وقال بنبرة هادئة لكن مشبعة بالمشاعر: –
مريم… أنا عايز أتجوزك. من أول مرة شوفتك، عرفتك… إنتي البنت اللي بحلم بيها… اللي لما تتكلم، قلبي بيسمعها مش وداني.
نظرت إليه مريم بخجل، وقلبها يخفق بعنف، مشاعرها مضطربة، ووجنتاها تزدادن احمرارًا.
ابتسم وقال بحنان: قوليها بقى… قوليلي "موافقة"، واروي قلبي العطشان إنه يسمعها منك.
خفضت مريم عينيها، وقالت بصوت خافت ومرتجف: – موافقة…
صرخ زيدان بفرحة حقيقية، وقفز بحماس طفولي: – أخيرًا وافقت! أخيرًا وافقت!
عادا معًا إلى الداخل، ومريم أبلغت الجميع بقرارها، ليعمّ الفرح قلوب الجميع.
يونس نظر إليها، وابتسامة عريضة على وجهه، وقال: –
أخيرًا هطمن عليكي يا مريم…
قالت الخالة وهي تضع يدها برفق وتربّت على ظهر مريم.
نحدد الخطوبة أول ما يونس يقوم بالسلامة إن شاء الله.
هز عز الدين رأسه وقال بسعادة
على بركة الله يا ولاد.
نظرت عائشة إلى يونس، وهي تمسك بيده، وابتسامة الأمل تزين وجهها… وخلفهم وقفا زيدان ومريم، وكأن صفحة جديدة تُفتَح في كتاب حياتهم… بداية جديدة، وقلوب امتلأت أخيرًا بالسلام.
********
في ذلك اليوم، كانت شهد قد قررت أن تذهب لمقابلة ماجد في شقته. صعدت إلى التاكسي، وجلست في المقعد الخلفي ووجهها مشحون بالتوتر. الطريق كان هادئًا، لكنها من الداخل كانت تضجّ بقلق لا تعرف له سببًا محددًا، سوى ذلك الشعور الثقيل في صدرها.
وصل التاكسي أمام برج شاهق مطلّ على النيل، يبدو فخمًا لدرجة تثير الريبة أكثر مما تطمئن. نزلت وتطلعت إلى الأعلى بقلق، ثم تنهدت مطوّلاً قبل أن تخطو نحو المدخل.
في داخل المصعد، كانت ضربات قلبها تتسارع كلما ارتفع الطابق، حتى وصلت أمام الشقة. يدها ارتجفت قليلًا وهي تضغط على الجرس.
فتح ماجد الباب بوجه يحمل ابتسامة عريضة، لكنها كانت مزيجًا من الخبث والتسلية، لا دفء فيها.
دخلت شهد بخطوات مترددة، عيناها تجولان في أرجاء الشقة التي تفيض بالفخامة والذوق الرفيع، لكن رغم الأناقة، قلبها لم يهدأ… المكان كله كان يصرخ: "خطر".
جلست على الأريكة، وضمت ذراعيها إلى صدرها كما لو كانت تحمي نفسها، وقالت بنبرة حادة:
ـ يلا، فهمني... هترجع يونس إزاي؟!
اقترب منها ماجد بخطوات واثقة، والابتسامة الساخرة لا تزال مرسومة على وجهه:
ـ الله، شكلك جاية مولعة... سخنة قوي على الموضوع. متقلقيش يا قطة، هتعرفي كل حاجة.
رفعت حاجبها، وضغطت على الكلمات وكأنها تُطلق رصاصًا من فمها:
ـ بقولك إيه... إحنا مش جايين نرغي. أنا عايزة أفعال، مش كلام. وبقولك للمرة التانية، لو فكرت تلعب بديلك أو تخلف وعدك... أقسم بالله لأهد المعبد على دماغك.
ضحك بخفة وهو يقرّب منها:
ـ حلو... أنا بحب النوع اللي عنده حِرقة كده. بس قبل ما نتكلم... تشربي حاجة؟
ذهب إلى المطبخ، ثم عاد بعد دقائق يحمل كوبين من العصير. مدّ إليها أحدهما قائلاً:
ـ اتفضلي.
أخذت الكوب بحذر، وتناولت منه رشفة صغيرة. مرّ الوقت ببطء قاتل، حتى بدأت تشعر بشيء غريب في جسدها... إحساس غامض بالثقل، كأن عضلاتها تتراخى، وقلبها ينبض بقوة غير معتادة.
نظرت إليه بعينين متسعتين وقالت بصوت مرتجف:
ـ في إيه؟!
ابتسم ابتسامة مرعبة، ووضع كوبه بهدوء على الطاولة:
ـ ولا حاجة يا قطة... بس حبيت أوريكي إنك دلوقتي بقيتي تحت سيطرتي تمامًا.
حاولت الوقوف، لكن قدميها خانتاها. سقطت مرة أخرى على الأريكة، جسدها منهك، ووعيها يتماوج بين الغياب والحضور.
اقترب منها وهو يتمتم ببرود:
ـ متخافيش... ده مجرد مهدئ بسيط. كنت محتاجك تهدي شوية، لأن عندنا شغل كبير.
ثم حملها كما لو كانت دمية، وأدخلها إلى غرفة النوم، ووضعها على السرير بعناية خادعة، بينما عينيه تلمعان بشرّ خالص.
مرّ الوقت ببطء لا يُحتمل، وحين فتحت عينيها بعد ساعتين، كانت على السرير، وبجانبه. كان يمرر أصابعه بين خصلات شعرها كأنه يملكها. نظرت إليه بصدمة، عيناها تمتلئان بالرعب، وهي تحاول سحب الغطاء على جسدها الذي بدا شبه عارٍ.
ابتسم وقال: ـ
صباحية مباركة يا عروسة، يا ترى نمتى كويس؟
شهقت بقوة، واندفعت لتبتعد عنه، جسدها يرتجف من الخوف، من الاشمئزاز، من الحقيقة القاسية التي بدأت تتضح. نظرت لنفسها، ولما ترتديه، ثم إليه… فعرفت.
ضربته بكل قوتها، لكنّه تفادى ضرباتها بسهولة، وهو يضحك. ظلت تصرخ وتلطم وجهها وتبكي بحرقة:
ـ انت عملت كده ليه؟!
اقترب منها، صوته يقطر سخرية:
ـ هو أنا غصبتك على حاجة؟ ما انت اللي جيتي برجلك يا أمورة... كل اللي عملته إني لبيت دعوتك. وعلى العموم، دي قرصة ودن، عشان تعرفي تهددي كويس يا شاطرة… وتعرفي إنّي مش ماجد الجابري اللي يتهدد.
حاولت ضربه من جديد وهي تلف الملاءة حول جسدها، لكنه أمسك بيديها ولواهما خلف ظهرها بعنف، وجهه اقترب من وجهها وهو يهمس بتهديد مخيف:
ـ أنتِ تخرسي خالص وتسمعي كلامي كويس، وإلا مصر كلها هتتفرج على اللي حصل بينا… وأولهم سي يونس بتاعك ده.

دفعها على الأريكة، وأخرج لابتوب من حقيبته ووضعه أمامها، ثم ضغط بضعة أزرار… لتظهر صور وفيديوهات لها وهي معه، في تلك اللحظات التي كانت فيها بلا وعي.
وقفت مكانها، شهقت، ثم انهارت على الأرض، عيناها تجولان في الصور التي تمزّق قلبها وتدمّر عقلها. مدت يدها وحطّمت اللابتوب بنصفين، رمت البقايا أرضًا، وهي تصرخ من القهر.
ماجد وقف، ينظر إليها وهو يضحك بسخرية باردة:
ـ اللي عملتيه ده مش هيفيد بحاجه. كده كده معايا نسخ كتير… أوزعها على الأهالي والأحباب لو فكرتِ تلعبي معايا أو تعصي أمري.
اقترب منها، وهمس في أذنها بنبرة شيطانية: ـ دلوقتي، أي كلمة هتقوليها، أي حركة هتعمليها... معايا دليل يدمّرك. فاهمة؟
شهد كانت جاثية على الأرض، عيناها مليئتان بدموع الذلّ والندم. كل شيء داخلها كان يصرخ، يتمزق، ينكسر. همست بصوت مبحوح:
ـ إنت شيطان.
ابتسم، كأن كلامها يُرضيه:
ـ وأنا الشيطان اللي هيوصلك لحبك… لو لعبتي صح.
أخرج من جيبه هاتفًا صغيرًا، ورماه أمامها، وقال:
ـ كل تعليماتي هتجيلك عليه. خليكِ جاهزة… يا قطة.
جلست مكانها، تنظر للهاتف، تنظر لنفسها… وكل ما فيها يرتجف. كانت تعرف أنها سقطت في فخ، لكنها لم تفقد كل شيء بعد. داخلها، كان هناك صوت صغير… ضعيف، لكنه عنيد:
"أنتِ لسه تقدري تقلبي اللعبة."
**********
مرّ يومان وماجد يحترق من الداخل، لا يهدأ له بال. كان يحاول بشتى الطرق أن يصل إلى أي معلومة عن عائشة، لكن دون جدوى. الرجل الذي أوكله بمراقبتها أخبره أنها لم تخرج من المستشفى منذ يومين، وكأنها اختفت داخل جدرانها. الغموض يلتف حولها، ويثير جنونه.
في لحظة ضيق وعجز، أخرج هاتفه واتصل بشهد. كان صوته هادئًا من الخارج، لكنه يقطر خبثًا وتحكمًا:
ـ كلمي عائشة... اعرفي منها إيه اللي بيحصل بالضبط.
أغلقت شهد الهاتف، ونظراتها زائغة في الفراغ. قلبها مثقل، عقلها مشوّش. كانت تائهة بين خوفها من ماجد، ومرارة حب يونس الذي يتآكل داخلها كل يوم. لكنها في النهاية، فعلت ما طُلب منها… كعادتها.
اتصلت بعائشة، التي كانت في تلك اللحظة تجلس إلى جوار يونس، وجهها مشرق، وقلبها مغمور بطمأنينة نادرة افتقدتها طويلًا. لم تتردد في الرد، وصوتها جاء مشرقًا بالحياة:
ـ عاملة إيه يا حبيبتي؟ وحشتيني قوي... أنا عندي ليكي خبر حلو جدًا!
شهقت بخفة، تحاول أن تبدو طبيعية، بينما في داخلها كانت النيران تستعر:
ـ إيه هو؟ قولي بسرعة!
قالتها بصوت مرن، لكن قلبها كان يضرب بعنف داخل صدرها، كأن شيئًا كارثيًا على وشك الحدوث.
عائشة، بابتسامة لا تفارق وجهها، وبهجة في نبرتها لا يمكن إنكارها:
ـ أنا ويونس كتبنا الكتاب
كلماتها وقعت كالصاعقة على أذن شهد. ارتجّ قلبها، وانقلب وجهها في لحظة، فقدت القدرة على التنفس لثوانٍ. صمت ثقيل لفّها، ثم خرج صوتها متحشرجًا، يحمل حدة غاضبة رغم محاولتها إخفاءها:
ـ إزاي؟! يعني من غير ما تقولي لي؟ ده أنا صاحبة عمرك! مش ممكن… إزاي متقوليش؟
عائشة تجمدت في مكانها. لم تكن تتوقع هذا الرد. شعرت بالذنب يزحف داخلها، تحاول أن تهدئ الوضع بصوت مرتجف:
ـ حقك عليا والله، الموضوع جه بسرعة، حتى أنا ماكنتش عارفة، يونس عملها لي مفاجأة.
لكن كلماتها لم تهدئ شهد، بل أشعلت النيران أكثر في صدرها. كانت كل خلية في جسدها تصرخ: "خسرتيه... راحت منك!"، ولم تستطع كبح نبرة الحقد التي تسللت إلى صوتها:
ـ ماشي… أنا عايزة أقابلك في أقرب وقت… ضروري.
شعرت عائشة أن هناك شيئًا غريبًا في نبرة شهد، شيء لا يمكن تجاهله. قلبها بدأ ينبض بقوة، نظرة قلق ارتسمت على ملامحها، لكنها لم تُظهر الكثير، فقط ردّت بهدوء مرتبك:
ـ طيب، ماشي، نحدد مكان وهشوفك فيه.
أنهت المكالمة، ثم أغلقت الهاتف ببطء، وكأنها تحاول استيعاب ما حدث. زفرت بقوة، ووضعت الهاتف بجانبها، بينما نظراتها سقطت على الأرض دون تركيز. إحساس غامض بالقلق تسلل إليها، كأن شيئًا سيئًا يلوح في الأفق. لم تعرف سببه، لكنها شعرت به بثقل في صدرها، وببرودة مفاجئة في أطرافها.
يونس نظر إليها، ولاحظ ارتباكها، لكنه لم يعلّق. أما هي، فابتسمت له ابتسامة باهتة، تحاول أن تخفي خلفها توترًا غريبًا… لكن قلبها، رغم كل الفرح، بدأ يضطرب من جديد.
*******
أغلقت المكالمة مع عائشة، والقلق يتسرب إلى قلبها. على الفور، أخرجت هاتفها مرة أخرى واتصلت بـ "ماجد"، عيونها تتحرك بسرعة في أنحاء الغرفة كأنها تتوقع أن شيء سيحدث في أي لحظة. الهاتف يرن، وبعد لحظات من الانتظار، يرد ماجد على المكالمة، لكن صوته كان مشحونًا بالغضب والتوتر.
ـ "ماجد… عائشة اتجوزت… هي ويونس كتبوا الكتاب."
أُصيبت أنفاسه بالاختناق للحظة، صوته يعلو فجأة في وجهها وكأن الكلمات تنفجر من بين شفتيه:
ـ "إزاي؟! قلت لك عايز أعرف كل حاجة! ازاي تتجوز وما تجيش تقولي لي؟!"
شهد شعرت بالقشعريرة في جسدها، قلبها يكاد يخرج من صدرها من شدة خوفها. حاولت أن تخفي رعبها، لكن نبرة صوتها الخائفة كانت واضحة تمامًا:
ـ شهد: بتردد، محاولًا تخفي خوفها
ـ "أنا ما كنتش أعرف، لسه عائشة مبلغانا دلوقتي."
كان يضغط على فكيه بحدة، كتم غضبه في صدره لوهلة، ثم أغلق المكالمة فجأة في وجهها، كأن الهاتف أصبح عبئًا ثقيلًا في يديه. أغلق الخط بقوة، وكأن هذا الفعل وحده قد يخفف من الضغط الذي كان يعتصر صدره.
وقف فجأة من مكانه وكأن جسده لا يتحمل هذا الغضب. نظر حوله في الغرفة بعيون ضبابية، وكل شيء فيها أصبح محطّمًا في عينيه. بدأ يضرب بيده على الطاولة، فكانت الأشياء تتناثر من حوله، الزجاج يتهشم، والورق يتطاير في الهواء.
ـبعصبية وهويقول
ـ "ماشي، دلوقتي لازم أغير الخطط. مش هخليها تفلت كده… لازم أتصرف بطريقة مختلفة."
كانت كل حركة منه مليئة بالتوتر والغضب المكبوت. تحرك في الغرفة بحركات سريعة وعصبية، كأن عقله يعمل بسرعة في محاولة لابتكار خطة جديدة. حركته كانت أشبه بالراقص المتوتر، كل خطوة وكل همسة تنبئ بعاصفة قادمة، عاصفة لا يعرف أحد كيف ستنتهي.
نظر إلى الجدران المحطمة حوله وكأنها توازي تشوهات عقله، لكن في عينيه كان شيء مختلف. شيء مظلم جدًا.
ثم عاد للنظر إلى هاتفه على الطاولة وكأنه يطلب منه إجابة، ولكنه لم يكن يرى فيه سوى الفراغ. كان يوشك على الانفجار، وعقله كان يتسابق للبحث عن مخرجٍ وحيد: الخطة الجديدة التي سيعمل عليها ليعيد السيطرة.
في نهاية اليوم، كانت عائشة جالسة بجانب يونس على حافة السرير، عيونها تراقب ملامحه المرهقة، وقد نَحتْ عليها آثار التعب الشديد الذي كان يعاني منه طوال اليوم. كان وجهه شاحبًا، عينيه مغمضتين، وجسده مغطى ببطانية ثقيلة كما لو كانت تحاول أن تخفيه من كل ما حوله. يديها كانت على صدره، تشعر بنبضه البطيء، وتراقب تنفسه بقلقٍ متزايد، بينما كان قلبها ينبض بتساؤلات لم تجد لها إجابات.
فجأة، قطع الصمت رنين الهاتف على الطاولة، وعينها التقطت الرقم بسرعة. كان "ماجد".
أخذت نفسًا عميقًا، محاولة أن تسيطر على التوتر الذي بدأ يتسرب إلى أعماقها. مع أن قلبها كان يصرخ بالقلق، إلا أن الفضول دفعها لأن تجيب. زفرت زفرة خفيفة، ثم رفعت الهاتف إلى أذنها، وعينيها تظلّان ثابتتين على يونس، بينما صوتها خرج هادئًا، على الرغم من التوتر الذي كان يشتعل داخلها:
ـ "ألو؟"
ماجد على الطرف الآخر تنهد، وكأنما كان يحاول إخفاء شيء وراء الكلمات، صوت مكسور وفيه نغمة حزينة:
ـ "عائشة، عاملة إيه يا بنت عمي؟ عايز أقولك حاجة مهمة... جدتك تعبانة جدًا، ولازم تشوفيها قبل ما يفوت الأوان."
عائشة شعرت بأن هناك شيء غريب في نبرة صوته، لكن لم تستطع أن تمنع نفسها من الرد بسرعة، عينيها اتسعت بدهشة، وعقلها بدأ يسبح في الأسئلة:
ـ عائشة باندهاش، وصوتها اصبح مشوش
ـ "جدتي؟! أنا أصلاً عمري ما شفتها… وبعدين مش قادرة أسيب يونس دلوقتي، حالته صعبة ولسه تعبان."
تنهد ماجد مرة أخرى، لكن هذه المرة كان صوته أهدأ وأكثر إقناعًا، كأنه يحاول إبقاء عائشة في دائرة القلق. قلبها بدأ ينبض بسرعة أكبر مع كل كلمة قالها
ـ "الست بتموت يا عائشة… حالتها ما تستحملش يومين كمان. وعلى فكرة، هي هنا في مصر، في مستشفى 'السلام'، لإن حالتها كانت حرجة واضطرينا ننقلها."
شعرت عائشة بصدمة في قلبها، كان عقلها مشوشًا بين التردد والشعور بالمسؤولية تجاه جدتها، وفي الوقت نفسه، كان قلبها متعلقًا بيونس.
. وضعت يدها على جبينها، وأغمضت عينيها للحظة، لتجد نفسها أمام صراع داخلي رهيب. كان واضحًا أن التوتر يشق صدرها وتتنفس بصعوبة، وعقلها كان يدور بسرعة:
ـ "طيب… أنا هاجي… استناني قدام المستشفى، وإنت خدني ليها."
نظرت إلى يونس مجددًا، وعيناها ضاقت من كثرة القلق عليه، كان نائمًا بعمق، ملامحه متعبة. حبها له في هذه اللحظة كان أقوى من أي شيء آخر. همست له بحب عميق، وهي تعرف أنها لا تستطيع تركه الآن، لكنها لا تستطيع تجاهل ما حدث:
ـ "آسفة يا يونس… لازم أروح… هرجع بسرعة."
أخذت حقيبتها بسرعة، وأغلقت الباب خلفها. بعد دقائق، رأت ماجد واقفًا بجانب سيارته. كان يرتدي جاكيتًا غامقًا، وبمجرد أن رأى عائشة، ابتسم ابتسامة باردة، ابتسامة لم تستطع أن تخفي الخبث الكامن خلفها. لم تكن هذه الابتسامة بشرة جيدة.
ـ عائشة بالتوتر ظهر في صوتها، وعيونها مليئة بالقلق
ـ "يلا… مش عايزة أتأخر."
ركبت معه في السيارة، لكنها لاحظت أن الجو كان ساكنًا، والقلق كان يملأ قلبها، وبينما كانت تراقب الطريق، كانت تشعر بشيء غريب في جو السيارة، كما لو أن هناك شيء غير طبيعي في الوضع. كان قلبها ينبض بسرعة غير معتادة، وكان تفكيرها يتسارع في محاولة لفهم ما يحدث.
مرت بضع دقائق، وفجأة قالت عائشة، وعيناها تتسعان في الارتباك والشك وهى تقول بصوت قلق ومتسائل
ـ "استنى… إحنا مش في طريق المستشفى… إحنا في طريق صحراوي!"
التفت إليها بنظرة حادة، عيناه غارقتان في سواد من الشر، وابتسم ابتسامة باردة، مليئة بالخداع والمكر.
ـ "عشان دا… طريق نهايتك يا عروسة."
الإحساس بالخوف اجتاح قلب عائشة، وكأن الزمن توقف فجأة. شبح الرعب الذي سيطر عليها كان أقوى من كل شيء آخر، وحاولت بسرعة فتح الباب، لكن الباب كان مغلقًا بإحكام. بدأت يديها ترتجف، وارتفع صوتها في صرخة مستنجدة:
لتردف بخوف بشدة، ورعب واضح في صوتها
ـ "إنت بتعمل إيه؟! وقف العربية حالًا!"
أخرج إبرة صغيرة من جيبه. في لحظة خاطفة، اقترب منها وهو يحملها، قبل أن تلحظ ما يحدث، غرز الإبرة في رقبتها بسرعة. حاولت أن تصرخ، ولكن كل شيء أصبح ضبابيًا، والألم في رقبتها كان يشتت وعيها، وتغشى عينيها:
ـ "نامي… بقى… عندنا ليلة طويلة."
عائشة حاولت أن تقاوم، لكنها شعرت بأن جسدها ينهار، وفقدت القدرة على التحمل. كل شيء من حولها بدأ يغرق في ظلام داكن، بينما الصوت الوحيد الذي كان يدق في رأسها هو دقات قلبها المتسارعة، التي بدأت تتلاشى مع كل ثانية. 

"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"

واتسابتليجرام
Raghad Ali
Raghad Ali
تعليقات