رواية خيوط النار الفصل الخامس عشر 15 بقلم نورهان موسي

  الفصل الخامس عشر من رواية "خيوط النار" بقلم نورهان موسي.

رواية خيوط النار الفصل 15 بقلم نورهان موسي

خيوط النار الحلقة الخامسة عشر

خيوط النار
الفصل الخامس عشر

كان الليل ساكنًا، لكن قلب يونس كان عاصفة من الهموم. فتح عينيه فجأة وهو يحاول النهوض من على السرير، شعور غريب اجتاحه، كأن هناك شيء مفقود... نظر حوله وهمس بصوت خافت، يغلفه الخوف:
"عائشة؟... عائشة"
كان صوت أنفاسه متقطعًا، ودقات قلبه تتسارع وكأنها تسبق خطواته، وهو يمشي على رجله الضعيفة، رغم الجرح الذي لم يلتئم بعد. الدم بدأ يلطخ تيشيرته من الجنب، لكن لم يكن يشعر بشيء سوى الخوف... خوف يلتهمه من داخله، كأنه عاصفة في قلبه.
دق على باب المرحاض عدة مرات، ولكن لم يكن هناك أي رد. قرر فتح الباب ودخل ليجده فارغًا. اتصل بمريم وهو يرتجف، ولكنها أخبرته أن عائشة لم تتصل بها منذ ساعات، ولا يوجد أي أثر لها. شعر كأن الأرض تهتز من تحت قدميه. اتكأ على الجدار وهو يكتم صرخة تتفجر من قلبه، حاسس بشيء خاطئ يحدث. قرر أن يتصل بزيدان. بعد نصف ساعة وصل زيدان، وأول ما رآى الدم ينزف من يونس، انفجر في وجهه بغضب:
"إنت اتجننت؟! كده جرحك هيفتح أكتر! اقعد، بلاش تتحرك!"
يونس بعصبية، وهو يبعد يده عن زيدان:
"أنا مش هقعد! عائشة مش موجودة! اختفت!"
زيدان وهو يحاول تهدئته:
"استهدى بالله... هنلاقيها دلوقتي!"
يونس بصوت مبحوح بين الألم والغضب، عينيه مليانة قهر:
"إنت مش فاهم... هي مراتي... وحبيبتي... أنا حاسس، حاسس إن ماجد عمل فيها حاجة. هو عايز ينتقم مني. ماجد هو ابن عم عائشة، وهو السبب في كل حاجة حصلت."
زيدان نظر إليه بدهشة، وقال:
"إزاي يعني يبقى ابن عم عائشة؟! أنت ما قلتليش عن ده قبل كده... فهمني بالظبط إيه اللي حصل يا يونس."
«فلاش باك ليوم عقد القران»

كان عزالدين جالسًا، لكن عينيه لم تبتعد عن عائشة. كان يشعر بشيء غريب تجاهها، كأنها تشبه شخصًا عزيزًا عليه. ثم تكلم المأذون قائلاً:
"محتاج توقيع الشهود هنا... اللواء عزالدين الأول."
امسك القلم، ونظر إلى الورقة... لكن فجأة، توقفت عيناه على اسم العروس المكتوب بخط واضح:
"عائشة محمد الجابري"
تجمدت يده، وكأن الزمن توقف، وسقط القلم من بين أصابعه.
يونس باستغراب:
"حضرتك كويس؟"
لم يُجب عز الدين، وبدأت الدموع تتجمع في عينيه، وتبدل وجهه تمامًا. تراجع خطوة إلى الوراء، وهمس لنفسه بصوت خافت غير مسموع.
"مستحيل... الاسم ده..."
اقترب يونس منه، وهو يحاول ألا يلفت انتباه الحضور، وقال بقلق:
"اسم مين؟"

نظر إليه ببطء وقال بصوت مكسور:
"ده اسم صاحبي... محمد الجابري... الله يرحمه. مات في حادثة من سنين، واللي قتل أبو عائشة كان زاهر وعبد الصمد."
يونس، مدهوشًا وصدمته واضحة في عينيه، قال:
"حضرتك أول مرة تتكلم عن صحابك ده... أنا كنت عارف إن ماجد شخص فاسد وعليه بلاوي كتير، وما رضيتش أبلغ عائشة بالكلام ده، وكنت مستني لما يتقبض عليه عشان أقول لها كل حاجة، لكن أول مرة أعرف عن والدها، وإن زاهر ليه يد في موته."
وقف يونس لحظة، ونظر لعائشة بذهول:
"من فضلك، عايز أفهم كل حاجة. عائشة خلاص بقت مراتي، ومن حقي أعرف كل شيء، وأي تفصيلة عنها."
امسك القلم مرة أخرى، ووقع على عقد الزواج، ثم نظر إلى يونس وقال له:
"مش وقت الكلام ده دلوقتي يا يونس، خلي بالك من مراتك دلوقتي، وأنا هتصل عليك وهفهمك كل حاجة."
وفي نهاية اليوم، قرر اللواء أن يتصل بيونس ليشرح له ما حدث.
"بص يا ابني، هقولك كل حاجة. أبو عائشة كان صاحبي وكان شغال فى مصنع أبوه، لكن فجأة دخل شريك جديد ليهم، اللي هو زاهر، عن طريق أخوه عبد الصمد. في البداية، زاهر كان شغال كويس، لكن محمد لاحظ حاجة غريبة، إن في شحنات بتدخل وسط شغلهم، وما كانش يعرف عنها حاجة. وبعد ما بحث، اكتشف إن أخوه و زاهر بيشتغلوا في المخدرات والسلاح، وبيستوردوها عن طريق الشحنات بتاعتهم. محمد ما قدرش يسكت، وكلمني، لكن للأسف ما كانش معاه أدلة كفاية عشان نقدر نعتقلهم. أنا قلت له يجمّع الأدلة، وأنا هساعده في القبض عليهم. وهو جمع الأدلة، لكن لما عرفوا، هددوه بمراته وعياله، وقالوا له إنهم هيقتلوا عيلته، فقرر يهرب هو وعيلته ويختفي، وكل اتصالاته انقطعت. لحد ما اعترف زاهر وهو في المستشفى بكل حاجة. هو اللي قال إن ماجد هو اللي حرق الشقة بتاعت عائشة عشان جدها كتب لها كل الأملاك عقابًا لعبد الصمد وابنه بسبب شغلهم مع زاهر."

كان يونس في حالة صدمة، فلم يكن قادرًا على التحدث، لكن اللواء أكمل:
"ممنوع تبلغ عائشة بأي حاجة دلوقتي، خلي فرحتها وجوازكم مستمر. خلينا نجمّع أدلة أكثر، ونمسك ماجد."
تشنج جسد يونس كله، وشعر كأن الأرض تهتز تحت قدميه، كانت عينيه مليئة بالدموع، وكان يشعر بشفقة على حبيبته.
"حاضر يا فندم... مش هبلغها بأي حاجة دلوقتي."
لكن بعد لحظة، همس يونس بصوت غاضب:
"أنا هنتقم منهم... من كل واحد أذاكِ... وخصوصًا الكلب ده..."
"احذر منه... ده مش بني آدم... ده شيطان لابس جلد بشر."
«بااااااااااااك»
سقط يونس على الفراش، غير قادر على الوقوف من شدة التعب. كانت رأسه تدور ووجهه شاحب. ركض زيدان نحوه بسرعة، وجلس بجانبه، ووضع يده على كتفه وهو يقول بحزم
"والله ما هسيبك لوحدك... هنلاقيها، هجيبها لك بإيدي."
لكن يونس كان مصر، وعينيه مليانة عناد:
"أنا اللي هجيبها... ما حدش غيري. ماجد مش هيوجعني بيها... مش هيكسرني فيها... أنا هحبسه وهخليه يتمنى الموت..."
وقف يونس وهو يضغط على جرحه، وارتدى القميص بسرعة، وكان زيدان يسير وراءه، محاولًا إيقافه، لكن فجأة... رن هاتفه.
نظر يونس إلى الشاشة... "شهد"
رد بسرعة، وكان قلبه يخفق، كأنما تمسك بخيط من الأمل:

"يونس! أرجوك اسمعني! لو عايز تلحق عائشة... لازم تسمعني!"
يونس بعصبية، وهو بيحاول يأخذ أنفاسه
"إنتِ بتشتغلي مع ماجد؟! لو دي لعبة... والله ما هرحمك."

صمتت شهد لحظة، وكان قلبها ينبض بسرعة، ودموعها تنهمر وهي تحاول التحدث بصوت مرتعش:
"أنا... أنا غلطت... بس أنا مش وحشة... كنت ضعيفة، شيطان الغيرة والحقد لعب بعقلي... بس أنا لسه بحبها... والله بحبها."
يونس، لم يكن يهتم بكلامها، وكان صوته يخرج متقطعًا من شدة وجعه:
"اخلصي... وقوليلي هي فين! أنا مش فاضي لخطبة ندم دلوقتي."
"هي في المخزن القديم بتاع ماجد، اللي على الطريق الصحراوي. ناوي يقتلها يا يونس! وبيجبرها تكتب له كل أملاكها... وبعدها هيدفنها هناك."
شعر يونس كأن قلبه قد انقبض، وكان الدم يغلي في عروقه، فصرخ:
"لو لمس منها شعرة... والله ما هرحمك! ولا هو! هتدفعوا التمن كله."
شهد ببكاء وندم:
"سامحني... أنا لو كان فيا ذرة شجاعة كنت أنقذتها، لكن أنا اتكسرت... أنا لسه بحبك يا يونس، وكنت بتمنى تحبني زي ما بتحبها... لكن خلاص، أنا خسرت كل حاجة."
صمتت لحظة، وكان صوت بكائها يختنقها.
"حافظ عليها... هي الحاجة الوحيدة اللي تستاهل تتحب في الدنيا دي."
أغلقت المكالمة، وجلست تبكي بشكل هستيري.
ثم أمسكت بهاتفها بيدين ترتعشان، واتصلت على رقم محفوظ داخل هاتفها... "أمي".
ردت ولدتها بدموع ولهفة:
"ألو؟ مين؟"
شهد وهي تتحدث بانهيار
"ماما... سامحيني... أنا بنتك شهد..."
"شهد!! يا بنتي فين كنتي؟! بقالك 3 أيام مختفية، قلبي بيتقطع عليكِ."
شهد بصوت مخنوق وهى تحاول التحدث
"أنا آسفة يا ماما... أنا ضيعت كل حاجة... خنت نفسي وخنت اللي حبوني... لكن كنت حابة أسمع صوتك قبل ما أمشي..."
بكت الام بحرقه وقهر وهى تقول
"لأ يا بنتي ما تقولييش كده، إنتي ترجعيلنا وتعيشي، إحنا بنحبك، أنا مليش غيرك يا بنتي."
نظرت شهد الى الفراغ امامها
"أنا كنت السبب في كل حاجة وحشة، ودفعت تمن كل ذرة حقد جوايا... أنا ضيعت روحي يا أمي..."
أغلقت شهد الهاتف، وكانت عيونها غارقة في الدموع، وصوت والدتها يرن في أذنيها، لكن الطريق الذي اختارته كان مظلمًا، مليئًا بالأشواك والألم.
********
كان اللواء عزالدين جالسًا على مكتبه، ذراعه مكفوفة، ووجهه يعكس توترًا واضحًا، وعيناه مثبتتان على عقد الزواج الذي وقع عليه منذ يومين، وكأن كل كلمة فيه تثقل قلبه أكثر. فجأة، رن الهاتف بصوت عالٍ قطع الصمت الذي كان يملأ الغرفة، وكأن الصوت فجأة زلزل المكان.
أجاب عز الدين بحدة وهو يمسك الهاتف من على مكتبه:
أيوه يا زيدان؟
كان صوت زيدان يخرج متوتراً، مليئاً بالقلق:
يا فندم… الموضوع خطير جدًا، عائشة اتخطفت… يونس منهار معايا وعامل زى المجنون وجسمه مش مستحمل… واللي خطفها هو ماجد.
قفز اللواء عز الدين واقفًا بشكل مفاجئ، دفع الكرسي إلى الوراء بعنف، وعيناه اتسعتا من الصدمة، كانت ملامح وجهه مشدودة كما لو أنه لم يصدق ما سمعه:
إيه؟ ماجد خطفها؟!
رد زيدان بصوت يكاد يختنق من الضغط والضيق:
أيوه يا فندم… شهد بلغته بالمكان، واضح إنه مخزن في طريق صحراوي، وانا ويونس هنتحرك هناك دلوقتى لكن محتاجين قوة معانا
دار اللواء عز الدين في مكتبه بتوتر، وكان قلبه يخفق بشدة، وكأن الضغط الذي شعر به جعل الزمن يتوقف. ثم توقف فجأة، وصوته أصبح أكثر حزمًا وصرامة، وكأنه يوجه تعليمات نهائية:
اسمعني كويس يا زيدان… حاول تمنع يونس بأي طريقة، هو دلوقتي ممكن يعمل مصيبة، ودي آخر حاجة عايزينها. ماجد لازم يتحاسب قانونيًا، مش بيد يونس… فاهم؟
رد زيدان بقلق، وكانت كلماته مشوبة بالحيرة:
أيوه يا فندم… هحاول أسيطر عليه.
أغلق اللواء عز الدين الهاتف بسرعة، وفتح جهاز اللاسلكي الداخلي، صوته صارم وحاسم وكأن الأمر لا يحتمل تأخيرًا:
عمر، خد قوة كاملة من العمليات، واطلع فورًا على المخزن اللي على الطريق الصحراوي القديم زيدان هيبعتلك العنوان عائشة مرات يونس اتخطفت، والى خطفها ماجد. دي عملية إنقاذ وقبض في نفس الوقت. اتحرك فوري
رد عمر عبر اللاسلكي، صوته سريع وموثوق:
تمام يا فندم، تحت أمرك.
أغلق اللواء عز الدين جهاز اللاسلكي، ثم سار باتجاه الشباك، وقف هناك مشدودًا، وعيناه غارقتان في الظلام الخارج، وكان يبدو وكأن الزمن قد توقف حوله. يداه كانتا ترتجفان قليلاً، وهمس لنفسه بصوت خافت، وكأن الكلمات خرجت منه رغماً عنه:
كان يجب أن أعرف أنه لن يتركها… كان يجب أن أتخذ خطوة قبل أن يحدث هذا.
المنزل كان غارقًا في سكونٍ ثقيل، مشحون بصوت الحزن الذي ملأ أركانه، كأنه يتنفس الألم. مريم كانت جالسة على الأرض بجانب الكنبة، عينيها محمرتين من كثرة البكاء، ووجهها شاحب وملابسه مبهدلة كأنها كانت في ساحة معركة مع أحزانها. خالتها كانت جالسة على الكنبة، يديها تغطي وجهها، والدموع تتساقط في صمتٍ مرير. التليفزيون كان مغلقًا، ولم يكن هناك سوى صوت النفس المتقطع والدعاء الذي يخرج من أعماق القلوب.
مريم، وقد احتبست أنفاسها في حلقة من البكاء، قالت:
"يعني إزاي؟ إزاي يعمل فيها كده؟ عائشة كانت أكتر واحدة بتخاف من الناس، وبتحب الخير لكل حد… ملهاش ذنب، كانت دايمًا طيبة… دايمًا بتسندني، حتى لما كنت منهارة… كانت أختي… أختي والله."
نظرت إليها بعينيها المملوءتين بالدموع، اقتربت منها وضمتها إلى صدرها بحنان، كأنها أم حقيقية تحاول مداواة جراح ابنتها.
"دي كانت بنتي… والله كانت زي بنتي. من أول ما دخلت البيت ده، دخلت قلبي… كنت حاسة بيها وبوجعها، وكنت أدعيلها تبقى بخير… ما استحملش يحصلها حاجة، يا رب احفظها… يا رب ارجعها لنا سالمة."
شدّت الخالة مريم إلى صدرها أكثر، كما لو كانت تحاول أن تحميها من وجع العالم بأكمله، أو أن تُخبئها بين ذراعيها لتمنحها شيئًا من الأمان المفقود. كانت مريم عيناها تلمعان بالدموع، تلك الدموع التي لم تكن مجرد حزن، بل كانت مزيجًا من الحنين والعجز والخوف.
تدفقت الذكريات إلى عقلها كالسيل، وتوقفت عند ذلك اليوم تحديدًا… يوم كُتب الكتاب. رأت أمام عينيها صورة عائشة وهي تجلس إلى جوار يونس، تلمع السعادة في عينيها كنجمتين تشعّان بالحب والطمأنينة. كانت ضحكتها آنذاك صافية، عذبة، خارجة من أعماق قلبها كأنها لا تعرف للحزن طريقًا.
ومريم، في تلك اللحظة، لم تكن فقط تذكر ما حدث، بل كانت تعيشه بكل جوارحها. شعرت بوجيب قلبها يزداد، وكأنها تُشارك عائشة نبضاتها. كأن أنينها الخافت كان يخرج من صدرها هي. اختلطت الدموع بالحنان، والذكريات بالألم، وكانت كل لمسة منها تحمل رجاءً خفيًّا أن تعود تلك الضحكة، أن تعود عائشة التي كانت.
"فاكرة ضحكتها؟ كانت دايمًا بتضحك حتى وهي موجوعة… عمرها ما شكت، ولا زعلتنا، كانت تخاف علينا أكثر مما تخاف على نفسها… وكنت أول مرة أحس إن لي أخت بجد."
الخالة، والدموع تنهمر من عينيها دون صوت، همست بدعاء:
"يا رب… يا رب ارجعها، ارجعها ليونس، ارجعها لنا… إحنا مش هنعرف نعيش من غيرها. إحنا محتاجينها… يا رب تردها سالمة، يا رب تحفظها من الشر."
نهضت مريم واقفة ببطء، وكأن ثقلًا هائلًا يجثم على صدرها ويُثقل حركتها، ثم بدأت تسير نحو الحائط الذي تزاحمت عليه الصور، بخطوات بطيئة تشبه من يمشي في أرضٍ من الذكريات. وقفت أمام إحدى الصور، وبعينيها المبللتين تأملت تلك اللحظة المجمدة في إطار خشبي: صورة جماعية من احتفال خطوبة يونس.
كانت عائشة في الصورة تبتسم... لا، لم تكن مجرد ابتسامة، بل كانت إشراقة صادقة تشع من وجهها، كأنها لم تعرف يومًا طعم الخوف أو الألم. بدت في تلك اللحظة جميلة بشكل نقي، وديعة كنسمة صيف، وبريئة كأن قلبها لم يذق سوى الطمأنينة.
ارتجف قلب مريم، وتسللت رعشة إلى أطرافها وهي تضع يدها على الصورة برفق، كأنها تحاول لمس تلك اللحظة البعيدة، أو استحضار دفء تلك الضحكة التي انطفأت. شعرت بوخزة في قلبها، ليست حزناً فقط، بل فجيعة… فجيعة في التحول، في الألم الذي غزا وجه عائشة مؤخرًا، في الظلال التي غطّت ملامحها بدلًا من تلك الابتسامة الطفولية.
همست مريم، دون أن تنتبه:
"يا رب رجعهالي زي ما كانت وبخير
الخالة نهضت، بصعوبة، قامت واقتربت من مريم، وضعت يدها على كتفها، كأنها تحاول تقديم بعض القوة في خضم هذا الوجع.
"مافيش حاجة بتضيع عند ربنا… ربنا شايف الظلم ده، وهيحميها… وهيكون معاها في كل لحظة. إحنا لازم ندعيلها، وندعي ليونس كمان، اللي قلبه مولع نار."
هزت رأسها، ودموعها تنهمر بحرارة:
"ربنا ياخد الحق… ياخد حقها منه… اللي عمل كده فيها، لازم يتحاسب… ولازم يتقبض عليه ويتحبس، ويتعذب زي ما عذبها."
بقيت مريم والخالة معًا، حضن يواسي، ودموع تغسل القلوب… وأمل ينمو في وسط الخوف، بأن عائشة سترجع… وأن الحق لن يسكت عليه الزمن.
رفعت الخالة يديها للدعاء:
"اللهم احفظها، اللهم اربط على قلبها، اللهم ارزقها النجاة… واحميها من كل شر."
*********
على طريق صحراوي مهجور، كانت السيارة تسير بسرعة، تعبر طريقًا ترابيًا قاسيًا، تثير الغبار خلفها. داخل السيارة، كانت عائشة مستلقية على المقعد الخلفي، مخدرة ووجهها شاحب، بينما كان ماجد يقود بعصبية، يراقب الطريق ويقوم بين الحين والآخر بالنظر إلى الوراء، أنفاسه تتسارع.
ماجد، بصوت متوتر، همس لنفسه:
"كنت منتظر اللحظة دي بقالى سنين… أخيرًا كل حاجة هتكون ليا."
وصل إلى مخزن مهجور في قلب الصحراء، نزل بسرعة من السيارة، فتح الباب، وحمل عائشة على كتفه، ودخل بها إلى الداخل.
المكان كان مظلمًا وباردًا، ورائحة التراب والخشب العفن كانت تملأ الجو. كان هناك كرسي قديم في وسط المكان، وحبال مرمية على الأرض.
وضع عائشة على الكرسي، ربط يديها ورجليها بإحكام، متأكدًا أنها لن تستطيع الهرب، ثم جلس أمامها، يراقبها وهي تستعيد وعيها ببطء.
بعد لحظات، فتحت عائشة عينيها، تنفست بصعوبة، وحاولت التحرك لكنها اكتشفت أنها مقيدة
عائشة، بصوت متقطع من الخوف:
"أنا فين؟!… إيه ده؟… ليه جبتني هنا؟"
نظرت حولها، والمكان كان مخيفًا، الإضاءة ضعيفة وصوت الرياح يتسرب من فتحات الجدران.
ماجد، بابتسامة شيطانية، قال:
"أهلاً بصاحبة الورث… فقتي؟ ولا لسه محتاجة شوية؟"
عائشة، وعيناها تدمعان، وخوفها واضح في صوتها:
"ورث إيه؟! إنت بتقول إيه؟! سيبني أمشي، أنا عملتلك إيه؟"
اجابها بقسوة
"عملتيلي كل حاجة وانتي مش واخدة بالك… جدك قرر يكتب كل أملاكه باسمك… أنا اللي كنت طول عمري شايل الشغل والتعب، وهو في الآخر يديكي كل حاجة؟"
عائشة، بصدمة:
"إنت بتخرف؟! أنا معرفش حاجة عن الكلام ده!"
نهض ماجد وبدأ يسير أمامها، يبتسم ببرود.
"أخواتك؟ اللي ماتوا واحد ورا التاني؟ افتكرتيها قضاء وقدر؟ لا، حبيبتي… أنا اللي خلصت عليهم، وانتي؟ كان المفروض تموتي معاهم… بس ربنا كان بيسخرلك وقتها… بس المرة دي، مفيش منقذ."
عائشة، وهي تصرخ والدموع تملأ وجهها:
"قتلت إخواتي؟! إنت واطي، كلب، حقير! والله هتتحاسب… يونس مش هيسيبك، والبوليس هيجي ويمسح بيك الأرض!"

اقترب منها ووجهه مليء بالحقد:
"قبل ما تموتي، هتمضي على ورق التنازل… الورث كله هيتحول باسمي، زي ما المفروض كان من الأول."
عائشة، بصوت عالٍ، متحدية:
"أنا مستحيل أعمل كده… حتى لو موتني، عمري ما هتنازللك عن حاجة مش من حقك!"
انفجر غضبًا، وأمسك بوجهها وضربها بقوة:
"غبية! أنا اللي قررت تموتي إمتى وإزاي!"
فجأة، اخترق السكون صوتُ سيارات تقترب بسرعة، صوت المحركات كان عاليًا، هادِرًا كأنه يحمل في طياته عاصفة من الأحداث القادمة. تتابعت الأصوات، صوت فرامل حادّ يمزق الصمت، أعقبه ارتطام الأبواب وهي تُفتح بعنف، وكأن من بداخل السيارات يندفعون لمواجهة لا تقبل التأجيل.
ارتجفت عائشة للحظة، نظرت حولها بذعر، وقلبها يخفق كطبول إنذار. أما ماجد، فقد تصلّب في مكانه، وانكمشت ابتسامته الباردة شيئًا فشيئًا، وكأن الصوت سحب منه كل شعور بالسيطرة.
الهواء امتلأ بالتوتر، وكل نفس أصبح ثقيلاً، وكأن الجميع يترقب شيئًا لا مفر منه. لحظة لم تحتج إلى كلمات، لأن الأصوات وحدها كانت كفيلة بإشعال الرعب.
وصوت زيدان من خارج المخزن:
"ماجد! إنت محاصر… سلم نفسك!"

ماجد، وقد توترت ملامحه وتشنج جسده، جذب عائشة من ذراعها بعنف، كأنما يحاول التشبث بسيطرته الآخذة في الانهيار. وقف خلفها محتميًا بجسدها المرتجف، ثم رفع المسدس ووضعه على رأسها ببرود زائف يخفي وراءه اضطرابًا داخليًا أشبه بالبركان.

صوته خرج غليظًا، مشحونًا بالتوتر والخطر:
"لو حد دخل، هطير دماغها دلوقتي."

كانت عائشة تتنفس بصعوبة، عيناها واسعتان تغليان بالدموع والرعب، قلبها يخبط صدرها بعنف كأنما يريد الهروب، والبرودة تسري في أطرافها من شدة الخوف.
وفجأة، اندفع يونس إلى الداخل، كالعاصفة، ملامحه مشتعلة بالغضب، وعيناه تقدحان شررًا حين وقعتا على المشهد أمامه... ماجد ممسك بعائشة، والمسدس يهدد حياتها.
توقف يونس للحظة، وكأن الزمن تجمّد حوله، ثم انطلق صوته قويًا، مزلزلًا، يخرج من أعماق وجعه وانفجاره الداخلي:
"سيبها يا ماجد... انتقامك معايا أنا!"
كان صوته يحمل كل ما بداخله من وجع، وغضب، وحب، واستعداد للتضحية. لحظة مشحونة إلى أقصى حد، كأن الأنفاس قد علقت في الهواء، والعالم كله توقف مترقبًا ما سيحدث بعدها.
ماجد، ضاحكًا بسخرية:
"إنت بتحلم… أنا اللي ماسك الورقة الرابحة."

سادت لحظة من التوتر المشحون، الهواء يكاد يُقطع بالسكاكين من شدته، والكل متسمّر في مكانه، ينتظر ما سيحدث. وفجأة، سُمعت خطوات تقترب من خلف ماجد، خطوات حذرة لكنها واثقة. تردّد صوت شهد في المكان، بصوت مملوء بالندم والوجع، صوت امرأة أنهكها الذنب وأثقلها الخذلان:
"أنا اللي لعبت بيا… خدت قلبي وشرفي وبعتني… بس أنا جايه أخد حقي، وآخدك معايا."
كانت واقفة بثبات مضطرب، ويدها ترتجف وهي ترفع المسدس، لكن نظرتها كانت حاسمة، مشتعلة بما يشبه العدل المختلط بالثأر. ضغطت على الزناد، فخرج صوت الطلقة عاليًا، مزلزلًا، وارتدّت بعدها لحظة من الصمت المطبق.
انهار على الأرض، جسده فقد توازنه، وسقط عاجزًا، كأن الرصاصة أفرغت منه كل جبروتٍ كان يتظاهر به.
صرخت عائشة بصوت مبحوح، وانسحبت من بين يديه بخوف وصدمة، دموعها تنهمر بغزارة، وكأنها تغسل بها كل لحظة رعب عاشتها. كانت تتنفس بصعوبة، وكأن الهواء نفسه يخنقها.
أسرعت شهد نحوها، واحتضنتها بقوة، بذراعي شخص ينهار من داخله، وتتكسر كلماته بين شهقاتها:

"أنا آسفة يا عائشة… أنا غلطت، كنت بحقد عليكي واتفقت معاه. سامحيني يا عائشة، أرجوكي."
وعائشة، وهي تحضنها بتعب وبكاء مزلزل، تمتمت بصوت مرتجف:
"بس خلاص… خلاص يا شهد… إحنا كويسين دلوقتي…"
لكن الطمأنينة لم تدم.
فجأة، انطلقت طلقة أخرى… طلقة غادرة، خرجت من مسدس ماجد، الذي رغم سقوطه، كان لا يزال يحمل الحقد والجنون في أصبعه المرتجف. أصابت الرصاصة صدر شهد، فارتد جسدها إلى الوراء، وارتعشت عيناها بدهشة ممزوجة بالحزن.
نظرت إلى عائشة نظرة طويلة، كأنها تودّعها بصمت، كأنها تحاول أن تقول كل شيء في لحظة واحدة.
أما عائشة، فقد تجمدت في مكانها، وجهها شاحب، ودموعها تسيل بلا وعي، تهمس وهي تهز رأسها ببطء، غير مصدقة:
"لا... لا يا شهد."

كانت أنفاس شهد تتسارع وتضعف، ووجهها الشاحب بدأ يفقد ملامحه شيئًا فشيئًا، والدم يغرق ثوبها بينما عيناها تتعلقان بعائشة بنظرة رجاء أخير، كأنها تتشبث بفرصة للمغفرة قبل أن يُطوى الستار.
همست بصوت واهن، بالكاد يُسمع، وقد اختلط الدم بأنفاسها الأخيرة:
"كنت... عايزه... أصلّح... غلطتي..."
ثم أغمضت عينيها، وسقط رأسها في حضن عائشة، وجسدها ارتخى تمامًا، كأن الروح غادرت أخيرًا، بعدما أفرغت ما تبقّى من وجعها.
شهقت بقوة، ثم صرخت صرخة مزلزلة، صرخة أم فقدت فلذة كبدها، أو أخت خذلتها الحياة في لحظة غادرة:
"شهـــــــــــــد!!!"
كان صوتها يملأ المكان، يمزّق الصمت، ويبعثر القلوب.
يونس، وقد اشتعل قلبه غضبًا وحنقًا، اندفع كالسهم نحو ماجد، وركله بقوة، فأسقطه أرضًا. كانت نظراته ملتهبة، قبضته مشدودة، وكأنه يحاول أن يطفئ النار في صدره بلكماته.
في تلك اللحظة، اقتحم زيدان المكان برفقة عدد من الضباط، وجوههم مشدودة، والسلاح مشهر. سارعوا إلى ماجد الذي كان ممددًا على الأرض، ينزف ولا يزال يحاول التماسك رغم فقدانه للسيطرة.
أشار زيدان بصوت صارم، لكنه كان يخفي في نبرته ألمًا دفينًا لما رآه:
"خدوه على عربية الإسعاف."
تحرك الضباط فورًا، وقيدوا ماجد، بينما بقيت عائشة تحتضن جسد شهد، والدموع تغسل ملامحها، وكأنها تحاول تطهير ما بقي من الذنب، والفقد، والانكسار.
التفت يونس نحو عائشة، احتضنها برفق، وهي تبكي بشدة، بينما هو يربت على ظهرها بحنان:
"خلاص يا روحي… خلاص… أنا جيتلك، وانتي بخير دلوقتي… كل شيء عدى خلاص."
كانت عائشة تحتضن يونس بذراعين مرتجفتين، تحتمي بصدره وكأنها تبحث فيه عن ملاذ من كل ما حدث. جسدها لا يزال يرتعش، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، أما بين ذراعيها، فكانت شهد ساكنة، جسدها البارد يزداد ثقلًا، وملامحها وقد تجمدت على تعبير حزين كأنها غادرت وفي قلبها كلام لم يُقال.
صوت صفارات الشرطة كان يعلو من حولهم، يخترق الأجواء كدقات النهاية، بينما عائشة تنظر أمامها بنظرات شاردة، وكأن الزمن توقف، أو كأنها انفصلت عن الواقع. الدموع لم تعد تتساقط بانفجار، بل كانت تنحدر بهدوء مؤلم على خدها، واحدة تلو الأخرى، تحمل في كل قطرة وجعًا، وندمًا، وثقلاً لم يعد يحتمله قلبها.
يونس ضمّها بقوة إلى صدره، يحاول أن يثبتها في مكانها، أن يبعث فيها شيئًا من الأمان، لكنه هو الآخر كان محطمًا، يشعر بالعجز، والغضب، والخوف الذي تأخر كثيرًا عن إنقاذ من رحلت.
في تلك اللحظة، لم يكن في المكان سوى صدى الفقد، ومرارة النجاة بعد الخسارة.
********
بعد إنقاذ عائشة من قبضة ماجد. كانت الشمس قد بدأت تغيب، والظلام بدأ يسيطر على المكان، لكن الظلام كان في عيني عائشة بشكل خاص. عندما شهدت موت شهد أمام عينيها على يد ماجد، كانت الصدمة كبيرة جدًا، وقلبها تحطم. كان كل شيء يدور حولها، وكل شيء أصبح ضائعًا. في تلك اللحظة، كان جرحها الأكبر هو مشهد موت صديقتها الوحيدة.
عائشة، وهي تتهاوى، همست بضعف:
"شَهَـدْ... ليه كده؟ ليه؟"
يونس، الذي كان واقفًا بجانبها، رأى انهيارها أمام عينيه. اقترب منها بسرعة، ممسكًا بها، وهو يشعر بالعجز عن فعل أي شيء. قلبه كان يتألم من الخوف عليها، وكان مفعمًا بالتعب من الجرح الذي أصابه، لكن الألم الجسدي لم يكن له أي أهمية مقارنةً بالقلق الذي يعتصر قلبه. استطاع في تلك اللحظة أن يحملها في حضنه، وينطلق بها من المكان.
يونس، وهو يتحدث إليها بصوت خافت:
"عائشة، حبيبتي، افتحي عيونك... خليكي معايا، مش هسيبك."
ركض بها نحو السيارة، وكل شيء حوله كان ضبابيًا. قلبه كان ينبض بسرعة، وجروحه التي لم يتسنى له معالجتها كانت تزيد من شدة الألم. كان يجري بها إلى أقرب مستشفى، عازمًا على إنقاذها.

عندما وصلوا إلى المستشفى أخيرًا، استقبلهم الأطباء بسرعة. يونس دخل بها، وكل دقيقة كانت تمر عليه كالعمر، وهو يراقب الأطباء وهم يعملون على علاجها. كان يقف بجانبها، لا يشعر بأي شيء سوى الخوف الذي يتغلغل في أعماقه.
الخالة ومريم وصلا إلى المستشفى، وهرعت مريم نحو يونس، قلقًا:
"يونس، عائشة كويسة؟ فينها؟ هي بخير؟"
يونس، بصوت ضعيف يملؤه القلق:
"هي في الأوضة، الدكتور أدّى لها حقنة مهدئة لأنها تعرضت لانهيار عصبي. شافت حاجة صعبة جدًا... شهد ماتت قدام عينيها... وهي مش قادرة تتحمل."
الخالة ومريم نظرا إلى يونس بعيون مليئة بالحزن، وكأن الألم قد تسلل إلى قلوبهم. اقتربت مريم منه، قائلةً:
"يونس، عائشة كانت بتحب شهد قوي، وأكيد ده صعب عليها. بس أنت كمان لازم تهتم بنفسك. أنت تعبان من جرحك."
يونس هز رأسه لها، ثم قرر أنه يجب أن يذهب إلى الطبيب ليعالج جرحه. كان يشعر بالذنب لأنه ترك نفسه جانبًا، بينما كانت عائشة في حالة من الانهيار.
في تلك اللحظة، كان الإحساس بالعجز يتسلل إلى قلبه، وأخذ ينظر إلى الأبواب المغلقة حيث كانت عائشة، يتمنى أن تعود إليه كما كانت، وأن تزول كل هذه الآلام.

"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"

واتسابتليجرام
Raghad Ali
Raghad Ali
تعليقات