رواية والتقينا الفصل الاول من روايات ندي ممدوح . والتى تندرج تحت تصنيف روايات رومانسية مصرية ، تعد الرواية واحدة من اجمل الروايات رومانسية والتى نالت اعجاب القراء على الموقع ، لـ قراءة احداث رواية والتقينا كاملة بقلم ندي ممدوح من خلال اللينك السابق ، أو تنزيل رواية والتقينا pdf كاملة من خلال موقعنا .
رواية والتقينا الفصل الأول
والتقينا
1 _أول لِقاء.
نسمةُ ريحٌ طيبةً هَلَّتْ، باردةً مُنْعِشة تترعُ فؤادِ المرء بالسرور والانتعاش، تطاير علىٰ إثرِها وريقاتُ الشجر اليابس التي تساقطتْ فوقَ الأرضْ، زقزقةَ العصافيَّر تطربُ الأذان وهي تحوم حول إحدى المساجد، الشمس لم تتكبد عِنان السماء، لكن ضوء الصباح ملأ الأفق بلونٍ جميل مريحٌ للنفس.
برز شاب علىٰ أسكفة المسجد، يرتدي حذاءه الامع السواد، ولسانه يُردد بخشوع بعضُ الأذكار، وانتصف واقفًا وقد أسبل جفناه ملتقطًا نفسٌ عميق من هواء الصباح ماليئًا به رئتيه، وزفره بتمهل، ولسانه لا ينفك عن ذكر الله، وعبر باب المسجد بخطوات هادئة رصينة، ثم أوقفه صوت طفلٍ صغير يقبل من داخل المسجد، صائحًا :
_ أخي بلال، انهاردة في تسميع؟
فأفتر محياه الأسمر عن بسمة رائعة، وهو يؤمأ برأسه قائلًا بوجهه الصبوح :
_ طبعًا يا عمرو في موعدنا، فأحفظ حلو وإلا …
فضحك الصغير، وهو يقول مداعبًا وقد كان خفيف الظل، حلو الدعابة :
_ بلال، يا أخي وإلا إيه؟.. أنت مش بيهون عليك تزعق حتى فينا، هقعد احفظ انا والعيال لحد ما تيجي.
_ تمام يا عمرو، وبلاش مشاغبة.
انصرف بلال متوجهًا إلىٰ سيارة لقمة عيشه، واستقلها وهو يذكر الله بصوتٍ مسموع، وأدار محركها منطلقًا بها، وهو يدعوا الله التوفيق، وفتح باب الرزق من أجل عائلته التي يعولها، لم يكن عمله كـ سائق لإنه فاشل حاشاه..
لقد تعب وكد حتى حصل على شهادة الهندسة لكن بدون واسطة في هذا الزمن يجعل المرء مركونًا على رف النسيان والأهمال، فلم ييأس وها هو ذا راضيًا بما كتبه الله له، المهم هو راحة النفس، ورضى القلب، ودون ذلك فلا يهم.
سبحان الله
( بصي يا ماما، مش دي إسراء اللي بتيجي على التلفزيون؟)
هتف بها طفلًا صغير مهللًا داخل ذلك النادي الشهير في قلب القاهرة، واستقبلت النجمة ( إسراء) الهتاف بفرحة غامرة وهي تبتسم بإشراق له، فسارت نحوه وهي ترفع نظارتها فوق رأسها الأسود الحرير المنسدل بنعومة فوق ظهرها، أنفها دقيق رقيق صغير، وجهها مستدير منير كالقمر، عيناها واسعتان براقتان تظللهما رموش سوداء طويلة، أمَّا لونهما فهما سر جمالها، فقد كانتا بنيتين لامعتين على الدوام.
قدها نحيف، وقامتها قصيرة لم ينقصان من جمالها البراق شيء، سلّمت علىٰ الصغير وعانقته بمودة، وصافحتْ والدته وألتقطت معهما بعض الصور، ثم أخذت تعدو خارج النادي لتتابع ركضها بعيدًا عن ضوضائه، وبينما هي تعدو، غافلة عن عينين ترصدانها رصدًا من داخل سيارة مغلقةً النوافذ فلا يظهر من يقودها والتي تحركت رويدًا رويدًا وراءها، توقفت إسراء تلتقط أنفاسها وهي تتجرع بعض الماء من الزجاجة التي كانت في يدها، عندئذ تناهى لها صوت سيارة تقبل نحوها، فألتفتت سريعًا و تقهقرت مبتعدة من أمامها وهي تغمغم :
_ إيه الغباء ده؟
لكن السيارة دارت حول نفسها، واتجهت نحوها، فاتسعت عيناها في ذَعر وارتياع، وركضت بكل ما اوتيت من قوة والسيارة تلاحقها، كان الطريق خالٍ في ذاك الوقت، فكانت تصرخ في انهيار مستنجدة دون جدوى، وحاولت مناورة السيارة وهي تبتعد يمنى ويسر وتركض في كل اتجاه حتى تيقنت أن سائق السيارة لا يبغي شيء إلا قتلها شر قتلة.
سقط في نفسها، وحَل الرعب قلبها، وهوت دموعها بكل خوف، وبينما هي تلتفت اصطدمت بها السيارة بكل قوة، فضُرب جسدها في مقدمتها ثم سقطتت جثة هامدة، وتوقفت السيارة ما أن تأكد صاحبها إنه صدمها، وفُتح بابها وكاد يترجل لولا تللك السيارة التي أقبلت.
سبحان الله
عِندما رأىٰ الرجُل الذي صدم المُّمثِلة ( إسراء) بسيارته السيارة المُقبلة، إذ فرَّ هاربًا وقد هاب أن يرآه، تاركًا جُثة ( إسراء) وقد تفجَّر من رأسها الدم وفار، توقفت سيارة ( بلال) وهرع منها مُسرِعًا في لهفة وجزع، ومال علىٰ وجهها المُصطبغ بدماءها وهو يُردد :
_ لا حول ولا قوة إلا بالله، إنَّ لله وإنَّا إليه راجعون
وتجمع النَّاس حوله ملتفون حول جسد ( إسراء)، التي تم إسعافها في سُرعة بعد ما تعرف عليها الممرضات والأطباء، وعلموا بشهرتها، وتبرع ( بلال) لها بنصف كيلو من دماءه، وأحضر جم ما تحتاج إليه من علاج، ودفع ثمن عمليتها مما تبقَّ معه، وجلس أخيرًا يلتقط أنفاسه، ثوانٍ وكان شارد الفِكر وهو يتذكر إنه كان عليه إن يجلب دواء الكَبِد لوالدته.
لكن لم يتبق معه شيء..
بل لقد أخذ سلفة من رفقاءه حتى يدفع عملية الفتاة التي لا يدري عنها شيئًا..
فأدحر التفكير عنه متوكلًا على الرزاق ( عز وجل)
وراح يُردد من صميم قلبه الأذكار..
وهو علىٰ يقين إن الله سيرزقه من حيثُ لا يشاء ..
وعلاج والدته سيحضره في وقته إذا شاء الله ( سبحانه وتعالى)
وبقى طيلة اليوم في المستشفى، لم يغادرها إلا لُماما حين كان يحادث والدته ليطمئنها عليه، ولمَّا استبد بهِ التعب، وغزا النوم أجفانهُ أغلقهُما مستدعيًا النوم الذي جاءهُ مُرحبًا، وفي غبش الليل نهض منتفضًا على صوت أنثوى يطلب منه أن يستيقظ ويفتح عيناه، وابتدرته الممرضة، تقول :
_ يا استاذ الأستاذة إسراء فاقت، وعمالة تصرخ مش عارفين مالها، لو سمحت تعالَ شوفها، لإن مفيش حد معاها غيرك.
فنظر لها ( بلال) لثوانٍ، ثم لم يلبث إن سألها :
_ هو محدش كلم أهلها للآن ليه؟
أجابته الممرضة نافية :
_ كلمناهم يا فندم، بس محدش جه يشوفها، هياخدوا وقت عشان يوصلوا لإنهم في بلد تانية.
ضيق ( بلال) عينيه في ضيق، وهو يغمغم :
_ وانا عليَّ اعمل إيه دلوقتي؟
هزت الممرضة منكبيها في حيرة، قائلة :
_ معرفش تعالَ شوفها.
مسح ( بلال) وجهه بكفه في غلظة وهو يكظم غيظه، ونهض سائرًا وراء الممرضة التي قاضتهُ إلىٰ إحدىٰ الغُرف الصادر منها صوت بُكاء رقيق، وتركته وانصرفت، فتسمر مكانه ولم يدرك ماذا عليه أن يفعل!
وخفق قلبه في قلق ..
لم يكن من الشباب الذين لهم علاقات مع النساء...
بل إنه شاب ذا خُلق يخاف إن يُخطإ في الحديث مع إحداهن فيغصب منه الله..
فمن خاف الله فعل كل شيء تقربًا إليه..
ازدرد لعابه وهو يستعين بالله، ويطرق الباب بظهر سبابته، ثُم دفع الباب وهو منكس الرأس، مُلقيًا السلام :
_ سلام الله عليكِ، تسمحيلي ادخل.
ولمَّا لم يتلق ردًا، وطال وقوفه، تجرأ علىٰ رفع رأسه لينظر إليها، وتلاقت الأعيُن..
وللقاء العيون حديث..
حديثٌ لا يعلمه إلا القلوب..
فكفت ( إسراء) عن بكاءها الخافت، وتأوهت بألم بسبب الألم الحاد في رأسها الذي تُحيطه الضمادات، وتأملته بمقلتين بريئتين مليئتين بالدموع الحبيسة، وفي نفسها هابتهُ مهابة لم تهب مثلها لأي رجلٍ في عمرها الحافل بالرجال.
قطع الصمت الذي ساد فجأة صوت ( بلال) الرخيم، قائلًا :
_ أهلك جيين كلها شوية وقت وهيكونوا هنا.
وأتبع يقول والأسىٰ يصبغُ وجهه :
_ للأسف أنا مقدرتش اشوف الشخص اللي خبطك بالعربية.. كان مجرد حادثة، والحمد لله إنك نجيت....
بتر عبارته صيحة ( إسراء) المنفعلة :
_ حادث؟ حادث إيه؟ دا حد بيحاول يقتلني.
رفع ( بلال) نظره إليها، ولم ينبس لدقيقة، تاركًا إياها تُفرغ ما بداخلها من دموع، ثم قال في هدوء :
_ سوا كان حادث او قتل عمد فكل ده تقدري تبلغيه للشرطة..
قاطعته ضحكة متهكمة ندت عنها، وهي تكرر في سخرية :
_ شُرطة! هأ .. وهتعملي إيه الشُرطة؟
تنهد (بلال) وهو يسمع آذان الفجر يعلو في الأرجاء، فأغمض عينيه دون مبالاة بها وراح يُردد وراء المؤذن في خشوع باطن وظاهر، وما إن انتهىٰ، حتى فتح الباب وهو يقول :
_ أنا همشي دلوقتي طالما حضرتك بقيتِ بخير حال.
وما هم أن يخطو للخارج، استوقفته صيحتها صارخة:
_ استنى أنت رايح فين؟ أكيد مش هتسبني لوحدي؟
فرفع حاجبه ذاهلًا وهو يُكرر في تعجب :
_مش هتسبني لوحدي؟
والتفت إليها مغمغمًا :
_ تقصدي إيه؟
همت أن تجيبه لكنه قال مستدركًا :
_ أنا هنزل اصلي الفجر، وراجع لإن الشرطة هتيجي تاخد اقوالنا وبعدها همشي.
وخرج مغلقًا الباب وراءه وهو في حيرة من أمرها..
بقت ( إسراء) في سريرها تفكر وتخطط لما ستفعله..
هي لا تريد أن تعود للمنزل بسبب القاتل الذي لا تدري عنه شيئًا، و لن تشعر بألامان..
ومتى شعرت به من الأساس؟!
هو لم يزورها يومًا..
ولم تذق شعوره..
ولم تحياه.
وتفجر في نفسها الأسىٰ كله..
سبحان الله
توقف ضابط الشرطة جوار فراش ( إسراء) ليأخذ أقوالها، وشرع يسألها إذا كانت تشك في أحدٍ معين، لكنها نفت ذلك، وأخذ الكاتب يدون وراءهما ما يقولون، حتى سألها الضابط وهو يشير إلىٰ ( بلال) الواقف في آخر الغرفة مُطرق الرأس، ولسانه لا ينفك عن ذكر الله :
_ أنتِ تعرفي الشخص اللي اسعفك هنا، مش يمكن هو اللي خبطك بالعربية، عشان كده اسعفك بسرعة؟!
رمقت إسراء بلال الذي لم يلتفت إليها قط في غيظ من لامبالاته، وأسرعت تقول :
_ مستحيل يا فندم.
فسألها الضابط مندهشًا :
_ ليه مستحيل يا آنسة إسراء؟
انبعث صوت إسراء وهي تقول في رقة :
_ مستحيل لإنه ...
وتعمدت الصمت ثوانٍ، استرقت خلالها نظرة إلى بلال، وازدردت لعابها وهي تلي قولها بخوفٍ :
_ لإنه خطيبي...
يُتبع
1 _أول لِقاء.
نسمةُ ريحٌ طيبةً هَلَّتْ، باردةً مُنْعِشة تترعُ فؤادِ المرء بالسرور والانتعاش، تطاير علىٰ إثرِها وريقاتُ الشجر اليابس التي تساقطتْ فوقَ الأرضْ، زقزقةَ العصافيَّر تطربُ الأذان وهي تحوم حول إحدى المساجد، الشمس لم تتكبد عِنان السماء، لكن ضوء الصباح ملأ الأفق بلونٍ جميل مريحٌ للنفس.
برز شاب علىٰ أسكفة المسجد، يرتدي حذاءه الامع السواد، ولسانه يُردد بخشوع بعضُ الأذكار، وانتصف واقفًا وقد أسبل جفناه ملتقطًا نفسٌ عميق من هواء الصباح ماليئًا به رئتيه، وزفره بتمهل، ولسانه لا ينفك عن ذكر الله، وعبر باب المسجد بخطوات هادئة رصينة، ثم أوقفه صوت طفلٍ صغير يقبل من داخل المسجد، صائحًا :
_ أخي بلال، انهاردة في تسميع؟
فأفتر محياه الأسمر عن بسمة رائعة، وهو يؤمأ برأسه قائلًا بوجهه الصبوح :
_ طبعًا يا عمرو في موعدنا، فأحفظ حلو وإلا …
فضحك الصغير، وهو يقول مداعبًا وقد كان خفيف الظل، حلو الدعابة :
_ بلال، يا أخي وإلا إيه؟.. أنت مش بيهون عليك تزعق حتى فينا، هقعد احفظ انا والعيال لحد ما تيجي.
_ تمام يا عمرو، وبلاش مشاغبة.
انصرف بلال متوجهًا إلىٰ سيارة لقمة عيشه، واستقلها وهو يذكر الله بصوتٍ مسموع، وأدار محركها منطلقًا بها، وهو يدعوا الله التوفيق، وفتح باب الرزق من أجل عائلته التي يعولها، لم يكن عمله كـ سائق لإنه فاشل حاشاه..
لقد تعب وكد حتى حصل على شهادة الهندسة لكن بدون واسطة في هذا الزمن يجعل المرء مركونًا على رف النسيان والأهمال، فلم ييأس وها هو ذا راضيًا بما كتبه الله له، المهم هو راحة النفس، ورضى القلب، ودون ذلك فلا يهم.
سبحان الله
( بصي يا ماما، مش دي إسراء اللي بتيجي على التلفزيون؟)
هتف بها طفلًا صغير مهللًا داخل ذلك النادي الشهير في قلب القاهرة، واستقبلت النجمة ( إسراء) الهتاف بفرحة غامرة وهي تبتسم بإشراق له، فسارت نحوه وهي ترفع نظارتها فوق رأسها الأسود الحرير المنسدل بنعومة فوق ظهرها، أنفها دقيق رقيق صغير، وجهها مستدير منير كالقمر، عيناها واسعتان براقتان تظللهما رموش سوداء طويلة، أمَّا لونهما فهما سر جمالها، فقد كانتا بنيتين لامعتين على الدوام.
قدها نحيف، وقامتها قصيرة لم ينقصان من جمالها البراق شيء، سلّمت علىٰ الصغير وعانقته بمودة، وصافحتْ والدته وألتقطت معهما بعض الصور، ثم أخذت تعدو خارج النادي لتتابع ركضها بعيدًا عن ضوضائه، وبينما هي تعدو، غافلة عن عينين ترصدانها رصدًا من داخل سيارة مغلقةً النوافذ فلا يظهر من يقودها والتي تحركت رويدًا رويدًا وراءها، توقفت إسراء تلتقط أنفاسها وهي تتجرع بعض الماء من الزجاجة التي كانت في يدها، عندئذ تناهى لها صوت سيارة تقبل نحوها، فألتفتت سريعًا و تقهقرت مبتعدة من أمامها وهي تغمغم :
_ إيه الغباء ده؟
لكن السيارة دارت حول نفسها، واتجهت نحوها، فاتسعت عيناها في ذَعر وارتياع، وركضت بكل ما اوتيت من قوة والسيارة تلاحقها، كان الطريق خالٍ في ذاك الوقت، فكانت تصرخ في انهيار مستنجدة دون جدوى، وحاولت مناورة السيارة وهي تبتعد يمنى ويسر وتركض في كل اتجاه حتى تيقنت أن سائق السيارة لا يبغي شيء إلا قتلها شر قتلة.
سقط في نفسها، وحَل الرعب قلبها، وهوت دموعها بكل خوف، وبينما هي تلتفت اصطدمت بها السيارة بكل قوة، فضُرب جسدها في مقدمتها ثم سقطتت جثة هامدة، وتوقفت السيارة ما أن تأكد صاحبها إنه صدمها، وفُتح بابها وكاد يترجل لولا تللك السيارة التي أقبلت.
سبحان الله
عِندما رأىٰ الرجُل الذي صدم المُّمثِلة ( إسراء) بسيارته السيارة المُقبلة، إذ فرَّ هاربًا وقد هاب أن يرآه، تاركًا جُثة ( إسراء) وقد تفجَّر من رأسها الدم وفار، توقفت سيارة ( بلال) وهرع منها مُسرِعًا في لهفة وجزع، ومال علىٰ وجهها المُصطبغ بدماءها وهو يُردد :
_ لا حول ولا قوة إلا بالله، إنَّ لله وإنَّا إليه راجعون
وتجمع النَّاس حوله ملتفون حول جسد ( إسراء)، التي تم إسعافها في سُرعة بعد ما تعرف عليها الممرضات والأطباء، وعلموا بشهرتها، وتبرع ( بلال) لها بنصف كيلو من دماءه، وأحضر جم ما تحتاج إليه من علاج، ودفع ثمن عمليتها مما تبقَّ معه، وجلس أخيرًا يلتقط أنفاسه، ثوانٍ وكان شارد الفِكر وهو يتذكر إنه كان عليه إن يجلب دواء الكَبِد لوالدته.
لكن لم يتبق معه شيء..
بل لقد أخذ سلفة من رفقاءه حتى يدفع عملية الفتاة التي لا يدري عنها شيئًا..
فأدحر التفكير عنه متوكلًا على الرزاق ( عز وجل)
وراح يُردد من صميم قلبه الأذكار..
وهو علىٰ يقين إن الله سيرزقه من حيثُ لا يشاء ..
وعلاج والدته سيحضره في وقته إذا شاء الله ( سبحانه وتعالى)
وبقى طيلة اليوم في المستشفى، لم يغادرها إلا لُماما حين كان يحادث والدته ليطمئنها عليه، ولمَّا استبد بهِ التعب، وغزا النوم أجفانهُ أغلقهُما مستدعيًا النوم الذي جاءهُ مُرحبًا، وفي غبش الليل نهض منتفضًا على صوت أنثوى يطلب منه أن يستيقظ ويفتح عيناه، وابتدرته الممرضة، تقول :
_ يا استاذ الأستاذة إسراء فاقت، وعمالة تصرخ مش عارفين مالها، لو سمحت تعالَ شوفها، لإن مفيش حد معاها غيرك.
فنظر لها ( بلال) لثوانٍ، ثم لم يلبث إن سألها :
_ هو محدش كلم أهلها للآن ليه؟
أجابته الممرضة نافية :
_ كلمناهم يا فندم، بس محدش جه يشوفها، هياخدوا وقت عشان يوصلوا لإنهم في بلد تانية.
ضيق ( بلال) عينيه في ضيق، وهو يغمغم :
_ وانا عليَّ اعمل إيه دلوقتي؟
هزت الممرضة منكبيها في حيرة، قائلة :
_ معرفش تعالَ شوفها.
مسح ( بلال) وجهه بكفه في غلظة وهو يكظم غيظه، ونهض سائرًا وراء الممرضة التي قاضتهُ إلىٰ إحدىٰ الغُرف الصادر منها صوت بُكاء رقيق، وتركته وانصرفت، فتسمر مكانه ولم يدرك ماذا عليه أن يفعل!
وخفق قلبه في قلق ..
لم يكن من الشباب الذين لهم علاقات مع النساء...
بل إنه شاب ذا خُلق يخاف إن يُخطإ في الحديث مع إحداهن فيغصب منه الله..
فمن خاف الله فعل كل شيء تقربًا إليه..
ازدرد لعابه وهو يستعين بالله، ويطرق الباب بظهر سبابته، ثُم دفع الباب وهو منكس الرأس، مُلقيًا السلام :
_ سلام الله عليكِ، تسمحيلي ادخل.
ولمَّا لم يتلق ردًا، وطال وقوفه، تجرأ علىٰ رفع رأسه لينظر إليها، وتلاقت الأعيُن..
وللقاء العيون حديث..
حديثٌ لا يعلمه إلا القلوب..
فكفت ( إسراء) عن بكاءها الخافت، وتأوهت بألم بسبب الألم الحاد في رأسها الذي تُحيطه الضمادات، وتأملته بمقلتين بريئتين مليئتين بالدموع الحبيسة، وفي نفسها هابتهُ مهابة لم تهب مثلها لأي رجلٍ في عمرها الحافل بالرجال.
قطع الصمت الذي ساد فجأة صوت ( بلال) الرخيم، قائلًا :
_ أهلك جيين كلها شوية وقت وهيكونوا هنا.
وأتبع يقول والأسىٰ يصبغُ وجهه :
_ للأسف أنا مقدرتش اشوف الشخص اللي خبطك بالعربية.. كان مجرد حادثة، والحمد لله إنك نجيت....
بتر عبارته صيحة ( إسراء) المنفعلة :
_ حادث؟ حادث إيه؟ دا حد بيحاول يقتلني.
رفع ( بلال) نظره إليها، ولم ينبس لدقيقة، تاركًا إياها تُفرغ ما بداخلها من دموع، ثم قال في هدوء :
_ سوا كان حادث او قتل عمد فكل ده تقدري تبلغيه للشرطة..
قاطعته ضحكة متهكمة ندت عنها، وهي تكرر في سخرية :
_ شُرطة! هأ .. وهتعملي إيه الشُرطة؟
تنهد (بلال) وهو يسمع آذان الفجر يعلو في الأرجاء، فأغمض عينيه دون مبالاة بها وراح يُردد وراء المؤذن في خشوع باطن وظاهر، وما إن انتهىٰ، حتى فتح الباب وهو يقول :
_ أنا همشي دلوقتي طالما حضرتك بقيتِ بخير حال.
وما هم أن يخطو للخارج، استوقفته صيحتها صارخة:
_ استنى أنت رايح فين؟ أكيد مش هتسبني لوحدي؟
فرفع حاجبه ذاهلًا وهو يُكرر في تعجب :
_مش هتسبني لوحدي؟
والتفت إليها مغمغمًا :
_ تقصدي إيه؟
همت أن تجيبه لكنه قال مستدركًا :
_ أنا هنزل اصلي الفجر، وراجع لإن الشرطة هتيجي تاخد اقوالنا وبعدها همشي.
وخرج مغلقًا الباب وراءه وهو في حيرة من أمرها..
بقت ( إسراء) في سريرها تفكر وتخطط لما ستفعله..
هي لا تريد أن تعود للمنزل بسبب القاتل الذي لا تدري عنه شيئًا، و لن تشعر بألامان..
ومتى شعرت به من الأساس؟!
هو لم يزورها يومًا..
ولم تذق شعوره..
ولم تحياه.
وتفجر في نفسها الأسىٰ كله..
سبحان الله
توقف ضابط الشرطة جوار فراش ( إسراء) ليأخذ أقوالها، وشرع يسألها إذا كانت تشك في أحدٍ معين، لكنها نفت ذلك، وأخذ الكاتب يدون وراءهما ما يقولون، حتى سألها الضابط وهو يشير إلىٰ ( بلال) الواقف في آخر الغرفة مُطرق الرأس، ولسانه لا ينفك عن ذكر الله :
_ أنتِ تعرفي الشخص اللي اسعفك هنا، مش يمكن هو اللي خبطك بالعربية، عشان كده اسعفك بسرعة؟!
رمقت إسراء بلال الذي لم يلتفت إليها قط في غيظ من لامبالاته، وأسرعت تقول :
_ مستحيل يا فندم.
فسألها الضابط مندهشًا :
_ ليه مستحيل يا آنسة إسراء؟
انبعث صوت إسراء وهي تقول في رقة :
_ مستحيل لإنه ...
وتعمدت الصمت ثوانٍ، استرقت خلالها نظرة إلى بلال، وازدردت لعابها وهي تلي قولها بخوفٍ :
_ لإنه خطيبي...
يُتبع
لمتابعة الحلقات الجديدة للرواية فور نزولها والجديد من الروايات تابعنا علي قناة تليجرام
الاكثر قراءة هذا الشهر :
انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل الاول، لمتابعة باقى أحداث رواية والتقينا الفصل الثاني أوقراءة المزيد من الروايات المكتملة فى قسم روايات كاملة إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.