رواية والتقينا الفصل الثالث من روايات ندي ممدوح . والتى تندرج تحت تصنيف روايات رومانسية مصرية ، تعد الرواية واحدة من اجمل الروايات رومانسية والتى نالت اعجاب القراء على الموقع ، لـ قراءة احداث رواية والتقينا كاملة بقلم ندي ممدوح من خلال اللينك السابق ، أو تنزيل رواية والتقينا pdf كاملة من خلال موقعنا .
رواية والتقينا الفصل الثالث
3_البلوة
"يا مصبتي، مين دي؟"
عبرت العبارة أُذني (بلال)، صادمة جامدة وهو ينظر لقريبته التي تجاوزته راكضة إلىٰ حيث سيارته، فأستدار بتأنٍ مبهوتًا في حيرة راحت تأكل شغاف قلبه، حينما وقعت عيناه عليها..
هي بذاتها!
بشعرها المنسدل وراء ظهرها في نعومة، وتحيطه ضمادة لفت جُل رأسها، وبملابس المستشفى، فما الذي تفعله!
كيف لحقت به؟!
بل كيف عرفت بمكان بيته فتبعته..
لكن.. الأمر لم يدُم إن أستبان له لقد كانت مختبئة في صندوق سيارته لا ريب..
لا غرو! إذًا إنه لم يشعر بها ولا بوجودها من الأساس.
وتفجر غضب هائل في نفسه، وهو يندفع نحوها بخطوات تكاد تلتهم الأرض، فتراجعت..
تراجعت في خوفٍ انفجر كـ بركان زفر حممه بغتةً في داخلها، وتملكها رعبٌ لم تذق مثله قبل، وازدردت لعابها وهي توشك على البكاء قائلة بصوتٍ متهدج :
_ أنت .. أنت شكلك متوحش كده ليه؟
وأغلقت عيناها في عنف وهي ترى أندفاعه نحوها، وما كاد يصل حتى كان يلكم قبضته المتكورة في سيارته، وهو يهتف جازًا علىٰ أسنانه:
_أنتِ إيه اللي جابك ورايا، أنتِ مجنونة، بتعملي إيه؟
فقرع قلبها طبول الخوف أكثر، وتلاحقت أنفاسها وهي تحاول إيجاد ثغرة تنفذ منها فتنجو من براثن غضبه المندلعة:
_اللي جبني، إيه اللي جبني صح؟
فصرخ فيها في غيظ:
_أنتِ هتهزري، إيه اللي جابك وراءيا.. انطقي!
تلعثم فمها وهي تدير عينيها في المكان متحاشية النظر إلى عيناه، وهمت بكلامٍ لم تدري كيف تنطق به، فتراجعت للوراء بخطوات حذرة، وهي تنظر لعيناه بعينين دامعتين، هامسة كطفلة صغيرة ضائعة:
_اللي جبني الشكر!
لم تكن تعلم ما الذي تهذي به، فكانت تنطق اول ما يأتي على شفتيها.
صرخ بلال فيها:
_نعم! اللي جابك إيه؟! مفهمتش.
فضحكت في بلاهة وهي تهمس:
_ الشكر، إني أشكرك يعني وكده!
فرفع بلال حاجبه في دهشة، متسائلًا في تهكم:
احلفي .. والله بجد؟!
ازدردت إسراء لعابها، وغمغمت بذات الصوت المشتت:
_ والله، والله، والله ده اللي جبني..
كانت كاذبة وتعلم هذا، ولم يصدقها فنظر لها بإزدراء، وبوجهٌ كالح عابس، فهتفت في لهفة:
_اصبر بس متتعصبش ، مش مصدقني ليه؟ ونبي ونبي ونبي ده اللي جبني!
صرخ بلال وهو يتقدم منها في تعصب:
_اسكتِ.. اسكتِ خالص وكفاية حلفان ومتقوليش والنبي تاني أنتِ فاهمة.
فاستكانت كطفلة وديعة وهي تغطي شفتيها بفمها وتؤميء برأسها، وانبعث صوت فتاة مذهولًا مما يحدث، تهتف باستنكار:
_بلال، أنتَ تعرفها! تعرف الممث…
ابتلعت باقي حروف عبارتها عندما استدركتها إسراء مكممة فمها بكفها وتهز لها رأسها برجاء ألا تسترسل، فلم تفهم الفتاة، وانحنت إسراء عليها هامسة:
_بالله عليكِ اسكتي خالص هو ميعرفش مين أنا!
ففركت الفتاة عينيها وهي تحملق فيها بعينين تكادان تخرجان من محجريهما، وهتفت:
_ده أنتِ بجد ولا حلم!
وهمست متعجبة بصوتٍ خفيض:
_أنتِ بتعملي إيه هنا؟
وشملتها بنظرة فاحصة من قمة رأسها لأخمص قدميها، واستطردت:
_أنتِ بتمثلي في المنطقة عندنا؟!
واختلست نظرة إلى بلال الذي بدا يروح ويجيء كانما يحاول السيطرة على نفسه وهو ينفث في غضب، واستتبعت تقول بذات الهمس:
_هو بلال مبقاش بلال ولا في إيه؟ هو من امتى بيمثل!
دنت منها إسراء وكادت تخبرها بشيء لولا أن اجفلها صوت بلال الصارخ:
_تعالي هنا ..
فألتفتت إليه مرتجفة، بينما اردف هو وهو يفتح باب سسارته في عنف، مشيرًا لها:
_اركبي!
وحاد بصره إلى قرييته، فصرخ فيها:
_وأنتِ التانية يلا على البيت.
فردت عليه الفتاة في إصرار:
_ مش هتزحزح من مكاني غير لما اعرف إيه الحكاية.
فأسدل جفنيه مستدعيًا الهدوء قبل أن يصاب بالجنون، وأجابها بحدة صارمة:
_قُلت على البيت.. يلا مش عاوز اعيد كلامي.
فدبت الفتاة بقدميها، واسترقت نظرة إلى إسراء وانصرفت وهي تتمتم على مضض.
دار بلال نظرهُ إلى إسراء وأشار لها بعينيه أن تدخل السيارة، فتصنعت القوة وهي تعقد ساعديها امام صدرها في رفض بيَّن، وتقول في نبرات قوية:
_لأ مش هركب معاك عشان ترجعني المستشفى حتى لو هتسبني في الشارع.
ولم تترك له الفرصة ليعقب، بل هتفت في لهفة:
_يرضيك طيب إن ادخل المستشفى وحد يقتلني..
قاطع عبارتها قول بلال في برود مثير للدهشة:
_ ما تتقتلي وأنا مالي! ميهمنيش.
فسالت دمعة حزينة على وجنتيها محتها سريعًا، وهي تسير صاعدة السيارة في إحباط وأسى.
حتى إنها لم تشعر به وهو ينطلق بالسيارة..
فقد شغلها التفكير عن كل شيء آخر..
ماذا لو فلح القاتل ذات مرة بالتخلص منها!
فليس كل مرة تسلم الجرة كما يقولون؟!
فهل ستموت!
وهي لم تحيا حياتها بعد!
لا تزل لم تعش الفرحة التي تتمناها..
لا يزل الحزن يسيطر على نفسها رغم كل شيء..
ثمة ضيق دائم يكاد يهلك أنفاسها، والعجب أن الجميع يظن إنها تملك سعادة العالم كله ما دام تملك المال.
أغبياء لا يعلمون إن الأمان لا يساويه مال الدنيا.
وإن راحة القلب وسكونه هو الكنز الحقيقي الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان..
لم تعرف متى توقفت السيارة و وصلا إلى المستشفى التي بدت لها خاوية مخيفة كأن ملك موتها يحوم فيها في انتظارها، وقبضة باردة اعتصرت قلبها دون هوادة، ونظرت إلى بلال بنظرة خاطفة.. فلم يبدِ على وجهه أدنى أثر للتأثر، وهو يغادر السيارة في برود، مغمغمًا في حدة:
_أنزلي، مش هسيبك غير لما اطمن إنك في اوضتك.
وتبعته دون حرف وسارت وراءه وهي مطرقة الرأس كلا يعرفها أحد..
لماذا أظلمت الدنيا في عينيها فجأة وهو يفتح الباب مفسحًا لها الطريق، وخطت داخل الحجرة كمن يُساق للموت، وأحست بحركة من لدن الفِراش جعلتها ترفع رأسها مجفلة وما كادت تفعل حتى شهقت في فزع وهي تتقهقر للخلف..
فهناك عند فراشها كان شابٌ ملثم يقبض على مقبض ذا نصلٌ حاد، وهناك الوسادة التي وضعتها مغطاة بدلًا عنها كي لا يعرف أحد بعدم وجودها وقد تناثر قطنها فعلمت إنه طعن الوسادة المسكينة التي كانت سبب نجاتها، وتحرك الشاب..
بحركة سريعة مجفلة للجميع وهو يرفع يده ويهوى بالنصل الامع اتجاه صدرها..
صدرها مباشرةً
واغمضت عينيها وهي تصرخ في هلع..
لكن بلال تحرك بعدما خرج من صدمته ليمسك بيده قبل أن تصل إليها ويدفعها للوراء في حركة عنيفة، ويركل الشاب للخلف في غضب، فما كاد يرتد هذا الأخير حتى هجم عليه بغضب بنصله، فانحنى بلال متفاديًا الطعنة وضرب ساعده في وجهه، ويده الأخرى قبضة على النصل مجبرة الشاب على افلاته، و وقفت إسراء تراقب ما يحدث في انهيار يُدمي القلب، وخبطة عنيفة تلقتها من الشاب وهو يندفع فارًا من المكان، ولحق به بلال عبر الرواق، وتعالت صرخات زائرين ومرافقين المرضى، وشهقات الخوف من الممرضات المندفعات في خوف، ارتقى القاتل درجات السُلم وبلال وراءه، وتقلصت المسافة بينهما وفلح بلال في أن يقبض عليه من تلابيب ملابسه ويسقطه ارضًا ويعلو فوق صدره وينقض عليه لكمًا بعدما أماط اللثام عن وجهه، وهو يصرخ:
_أنت مين، وعايز تقتلها.. ليه؟
أجابه الشاب بأن رفع قدمه وضرب ظهر بلال الجاثم على صدره فسقط إثر ذلك منقلبًا واعتدل بسرعة بارعة، ولم يجد ادنى أثر للملثم، فزفر متنهدًا وهو يلتقط أنفاسه، وأسرع يهبط الدرج متجهًا إليها..
إلى إسراء
وكان لأول مرة يدق قلبه في خوف على أحد غير عائلته..
وعندما عاد كان رجال الأمن منتشرين في المكان، سعيًا وراء القاتل، واستجوابًا له عما حدث بالتفصيل، وعلم إن إسراء فقدت الوعي، وجلس في إحباط أمام غرفتها، وهب في لهفة مع خروج الممرضة، التي تساءلت:
_أنت بلال؟!
فأجابها:
_ايوة أنا هي كويسة؟
فردت تطمئنه:
_ركبنا لها المحاليل وساعة كده وهتفوق، بس قبل ما يغمى عليها.. وصتني بحاجة …
لم يدعها بلال تستكمل، وهو يسألها في شغفٍ نطقت به عيناه وإن لم تعبر نبرته الجامدة:
_وصتك بإيه؟
_إنك متسبهش، الممثلة قالتلي بالحرف (قولي لبلال ميسبنيش)
وتابعت في فضول:
_هو مش حضرتك خطيبها برضو؟!
لم يشعر بلال بنفسه وهو يهز رأسه موافقةً على سؤالها، بل لم ينتبه للقب ( الممثلة) وقد غرق تأثرًا في جملتها التي تركتها إليه.
وغادرت الممرضة من أمامه، وعاد هو ليجلس في استرخاء لا يعلم مصدره، وأسند رأسه على الجدار واسدل أهدابه على حيرة نفسه، لماذا استلذ ذاك الشعور الذي بدأ يتولد بداخله؟
شعور أنه ثمة من تكون أنت حمايته!
ولو كان غريبًا..
لا تربطكما أيّ صلة قرابة!
وتبسَّم تبسُّم المحتار..
كان عسيرٌ عليه ان يصل لقرار!
أيتركها! أماذا يفعل!
أما يفر من المكان ويكون في منأى عن كل ذلك.
لكن هذه ليس رجولته ولا من شيم الرجال.
مر بهِ الوقت دون أن يشعر وهو لا يزل مسبل الجفنين في غمرة أفكاره، حتى نبئته الممرضة إنها استعادت وعيها، فشحذ همته للذهاب لتلك الغريبة التي ألتصقت به بغتة كعلكة علقت في ملابسه ولا يدري كيف يزيلها، وطرق علىٰ الباب في هدوء ودخل دون كلمة
ودون حرف
وبخطوات هادئة ساكنة رغم صلابتها..
وتحير بما يبدأ الحديث، متخبط المشاعر، و ود لو لم يسعفها وتركها على قارعة الطريق..
ونظرت هي له وهي ممدة في فراشها بغيظٍ، وهتفت:
_إيه صدقتني دلوقتي إن في حد بيحاول يقلتني ولا برضو هتكذبني؟! آه..
تأوهت متألمة عندما حركت ذراعها الموصول به المحقن المغذي، فرفع بصره إليها، وقال في هدوء:
_ بلاش ترهقي نفسك، أنا دلوقتي مصدقك، وإن شاء الله الشرطة هتقدر تقبض على القاتل أنا أدتهم مواصفاته.
فسألته بلهفة تطل من عينيها:
_أنت شفت وشه!
فرد بإيجاز:
_ايوة.
واستطرد وهو يغض بصره متحركًا للخارج:
_أنا مستني برة لحد ما المحلول يخلص عشان …
وسكت لهنيهة، ثم قال بإنفعال:
_عشان هتيجي معايا بيتي.
وخرج مغلقًا الباب وراءه، أما هي فقد تنفست الصعداء، وامتزج بداخلها شعور الأمان بالبهجة وسريا في دماءها وقلبها.
وقف بلال أمام الحجرة بعد ما أغلق بابها، وحيدًا يترقب لعلّ وعَسَىٰ تُغير رأيها ولا تذهب معه.
ولكن آمله اضمحل إزاء سماعه لفتح الباب و وقوفها وراءه، وهي تغمغم:
_أنا جاهزة اروح معاك!
فأغمض عيناه آخذًا نفسًا عميقًا، ولم يلبس ببنت شفة وهو يتحرك أمامها فلحقت به وهي مطرقة الرأس عاقدة الذراعين، واضعة وشاحٌ تُغطي به رأسها، وتشد طرفه علىٰ وجهها كي لا يعرفها أحد حتى استقرت داخل السيارة الذي انطلق بها دون صوت، وهو يخبرها عمن يعيش معه في الببت..
فقد كان يحوى أمٌ لا هم لها إلا سعادة ابناءها، وأختٌ في الثلاثين من العمر مخطوبة تُدعى ( سُهير) و (عمرو) أخيه الصغير، هذه كانت عائلته الصغيرة، وجل همه في الحياة..
هو توفير لهم حياة كريمة..
فلا يحتاجون أحد
ولا يطلبون العون من غريب..
فمنذ وفاة والده وهو الأب والأخ والمعول لأحتياجتهم..
وهو لم يمل ولم يكل ولم يُعيّه ذلك..
فما الدنيا أمام بسمة رضى من عينين والدته..
وضحكة سعادة من ثغر أخته..
وقفزت سرور من أخيه الصغير..
لكن ما صدمها هو قوله الأخير وهو جامد الملامح وبصره مصوبًا للطريق أمامه:
_أنتِ اكيد مش هتقعدي اكتر من يومين تلاتة كده، وطبيعي اهلك هيرجعوا من بلاد بره ويقدروا يحموكِ، فعشان كده أنتِ هتقعدي في شقتي ودي محدش بيقعد فيها وهجيبلك الأكل والمياة لحد عندك و متسمحيش لحد يشوفك.
فصرخت وهي تلتفت إليه في اهتياج:
_أنت عاوز تحبسني عندك!
فعصفت رياح الغضب بقلبه، وهو يصرخ فيها ضاربًا عجلة القيادة:
_ده اللي عندي عاجبك خير معجبكش خلاص، مش من مسؤليتي اصلًا أن احميكِ وقعدك في بيتي.
وزفر في ضيق وهو يهمس في نفسه:
_أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، اول مرة حد يخليني بالغضب ده وممسكش نفسي قدامه.
واستعاذ بالله ليزول عنه الغضب.
ركن سيارته في مكانها المخصص، وترجل وهو يغمغم بصوت جاف:
_انزلي..
فترجلت في ترقب وهي لا تدري أي بيتٌ هو بيته، وحينما سار لحقت به في هدوء، ودخلت وراءه بيتًا بسيط ذا أثاث يدل عن فقر صاحبه او حاله المتوسط، وطافت مقلتيها في إنحاءه لتستطلع محتوياته، وبينما هي علىٰ تلك الحالة، وقدميها تسيران وراء بلال كأنما هي ظله الذي لا يفارقه، توقف هذا الأخير فجأة فأصطدمت به وابتعدت سريعًا وهي تزمجر بنبرة خفيضة:
_مش تقول إنك هتقف لازم تخبطني يعني!
ولا أنت بتنتقم مني؟
فتجاهلها تمامًا وهو يحدجها شزرًا، ويغمغم باقتضاب:
_آه ما هو أنا عامل زي القطة اللي ماشية تتسحب بدون صوت وراء أي حاجة وخلاص!
كان يقصدها ويستهزأ بها، فاتسعت عينيها وفغرت فاه لثوانٍ، قبل أن تجيبه بأنفعال:
_تقصد مين بقطة؟ أنا …
وأشارت إلى نفسها وهي، تسترسل:
_أنا أنا قطة!
تبسَّم بلال في سخرية، وهو يرمق قامتها الضئيلة...
بل الضئيلة جدًا..
بجانبه..
فبدت كقزمة وكتم ضحكة كادت أن تفلت من بين شفتيه تلاشت وخفتت سريعًا عندما اردفت هي في زهو:
_يا عم قطة إيه بس؟
وضحكت في خفوت، مضيفة:
_قول لبانة ولزقت فيك، ومش هتعرف تشيلها.
وضحكت بصوتٍ عال، لم تلبث إن كبتتها في داخلها عندما رمقها بنظرة صارمة رادعة، وانبعث صوت امرأة كبيرة في السن، تهتف:
_ بلال، أنت جيت، هو في حد معاك؟
فأجابها بلال رافعًا صوته ليصل إليها:
_ ايوة يا ست الكل جيت، دقايق هغير وأجيلك.
وأشار برأسه لـ إسراء كي تتبعه، وارتقى درجات الدرج ليفتح لها باب شقته التي كانت خالية من الأثاث، ومن كل شيء تقريبًا، بينما أفسح لها لتعبر للداخل وهو يقول في صلابة:
_هتقدي هنا.. وإياكِ تطلعي.
فطافت إرجاء الشقة بأمتعاض وصاحت به:
_وهنام فين أنا؟ على الأرض أنت عاوزني اتكسر.
فجز بلال على أسنانه وهو يرد عليها ساخرًا:
_لأ، ودي تيجي برضو! هجيبلك حالًا حاجة تفرشيها وتنامي عليها.
همت أن تعلق، لكنه لوح بسبابته مغمغمًا:
_ده اللي عندي عاجبك او مش عاحبك فالباب يفوت جمل.
فصمتت على مضض، واوقفته عندما استدار ليغادر، قائلة:
_استنى يا بلال أنا جعانة هموت من الجوع.
فأستدار بحركة حادة لتتراجع مستدركة:
_مش جعانة مش جعانة …
ثم اتبعت تقول في نفسها:
_ اموت احسن من الجوع ولا أموت من عينيك اللي تخوف دي يا بلال المهيب، والله يليق عليك بلال المتوحش.
وتنبهت من شرودها على تلويح كفه أمام وجهها، وهتافه:
_أنتِ .. روحتِ فين؟
فنظرت له، متسائلة:
_كنت بتقول حاجة!
فأجابها بالامبالاة وهو يكاد ينصرف:
_بقول إنك بقيتِ عالة على الواحد.
فعبس وجهها وطل الحزن في عينيها، واستوقفته مجددًا وهي تسأله بنبرة تفيض بالشجن:
_هو أنت مش عايز اهلك يشوفوني ليه؟!
فرد وهو يغادر:
_لإنك بلاء مش بيسيب صاحبه.. وبلوة على دماغ الواحد.
شيعته بنظرات حزينة وهو ينصرف وأطرقت برأسها ساهمة، ثم راحت تتحرك دون سبيل في إنحاء الشقة حتى عاد إليها بطعام وزجاجةً من الماء المثلج، وألقى أسفل قدميها غطاء (ومرتبة) صغيرة، وهو يغمغم:
_الأكل والمياه عندك والمرتبة عشان تنامي عليها وغطا، وكده مفيش حاجة نقصاكِ.
وتحرك خارج الشقة غافلًا عن أخيه الصغير الذي تبعه لأعلى عندما شاهده يأخذ المرتبة والطعام متعجبًا لشقته، و وقف مبهوتًا وهو يرَ ويسمع كل شيء من مخبئه وراء الجدار، ثم غمغم يسأل نفسه:
_هو مش دي الممثلة اللي بتطلع على التلفزيون اللي بتحبها اختي سهير!
وصاح في حماس:
_ايوة هي أنا متأكد..
وتفكر لحظة، ثم اضاف:
_بس بتعمل إيه عندنا؟! انا لازم أأقول لماما وسهير.
وقرن قوله بفعله ونزل درجات السُلم عدوًا.
يُتبع …
"يا مصبتي، مين دي؟"
عبرت العبارة أُذني (بلال)، صادمة جامدة وهو ينظر لقريبته التي تجاوزته راكضة إلىٰ حيث سيارته، فأستدار بتأنٍ مبهوتًا في حيرة راحت تأكل شغاف قلبه، حينما وقعت عيناه عليها..
هي بذاتها!
بشعرها المنسدل وراء ظهرها في نعومة، وتحيطه ضمادة لفت جُل رأسها، وبملابس المستشفى، فما الذي تفعله!
كيف لحقت به؟!
بل كيف عرفت بمكان بيته فتبعته..
لكن.. الأمر لم يدُم إن أستبان له لقد كانت مختبئة في صندوق سيارته لا ريب..
لا غرو! إذًا إنه لم يشعر بها ولا بوجودها من الأساس.
وتفجر غضب هائل في نفسه، وهو يندفع نحوها بخطوات تكاد تلتهم الأرض، فتراجعت..
تراجعت في خوفٍ انفجر كـ بركان زفر حممه بغتةً في داخلها، وتملكها رعبٌ لم تذق مثله قبل، وازدردت لعابها وهي توشك على البكاء قائلة بصوتٍ متهدج :
_ أنت .. أنت شكلك متوحش كده ليه؟
وأغلقت عيناها في عنف وهي ترى أندفاعه نحوها، وما كاد يصل حتى كان يلكم قبضته المتكورة في سيارته، وهو يهتف جازًا علىٰ أسنانه:
_أنتِ إيه اللي جابك ورايا، أنتِ مجنونة، بتعملي إيه؟
فقرع قلبها طبول الخوف أكثر، وتلاحقت أنفاسها وهي تحاول إيجاد ثغرة تنفذ منها فتنجو من براثن غضبه المندلعة:
_اللي جبني، إيه اللي جبني صح؟
فصرخ فيها في غيظ:
_أنتِ هتهزري، إيه اللي جابك وراءيا.. انطقي!
تلعثم فمها وهي تدير عينيها في المكان متحاشية النظر إلى عيناه، وهمت بكلامٍ لم تدري كيف تنطق به، فتراجعت للوراء بخطوات حذرة، وهي تنظر لعيناه بعينين دامعتين، هامسة كطفلة صغيرة ضائعة:
_اللي جبني الشكر!
لم تكن تعلم ما الذي تهذي به، فكانت تنطق اول ما يأتي على شفتيها.
صرخ بلال فيها:
_نعم! اللي جابك إيه؟! مفهمتش.
فضحكت في بلاهة وهي تهمس:
_ الشكر، إني أشكرك يعني وكده!
فرفع بلال حاجبه في دهشة، متسائلًا في تهكم:
احلفي .. والله بجد؟!
ازدردت إسراء لعابها، وغمغمت بذات الصوت المشتت:
_ والله، والله، والله ده اللي جبني..
كانت كاذبة وتعلم هذا، ولم يصدقها فنظر لها بإزدراء، وبوجهٌ كالح عابس، فهتفت في لهفة:
_اصبر بس متتعصبش ، مش مصدقني ليه؟ ونبي ونبي ونبي ده اللي جبني!
صرخ بلال وهو يتقدم منها في تعصب:
_اسكتِ.. اسكتِ خالص وكفاية حلفان ومتقوليش والنبي تاني أنتِ فاهمة.
فاستكانت كطفلة وديعة وهي تغطي شفتيها بفمها وتؤميء برأسها، وانبعث صوت فتاة مذهولًا مما يحدث، تهتف باستنكار:
_بلال، أنتَ تعرفها! تعرف الممث…
ابتلعت باقي حروف عبارتها عندما استدركتها إسراء مكممة فمها بكفها وتهز لها رأسها برجاء ألا تسترسل، فلم تفهم الفتاة، وانحنت إسراء عليها هامسة:
_بالله عليكِ اسكتي خالص هو ميعرفش مين أنا!
ففركت الفتاة عينيها وهي تحملق فيها بعينين تكادان تخرجان من محجريهما، وهتفت:
_ده أنتِ بجد ولا حلم!
وهمست متعجبة بصوتٍ خفيض:
_أنتِ بتعملي إيه هنا؟
وشملتها بنظرة فاحصة من قمة رأسها لأخمص قدميها، واستطردت:
_أنتِ بتمثلي في المنطقة عندنا؟!
واختلست نظرة إلى بلال الذي بدا يروح ويجيء كانما يحاول السيطرة على نفسه وهو ينفث في غضب، واستتبعت تقول بذات الهمس:
_هو بلال مبقاش بلال ولا في إيه؟ هو من امتى بيمثل!
دنت منها إسراء وكادت تخبرها بشيء لولا أن اجفلها صوت بلال الصارخ:
_تعالي هنا ..
فألتفتت إليه مرتجفة، بينما اردف هو وهو يفتح باب سسارته في عنف، مشيرًا لها:
_اركبي!
وحاد بصره إلى قرييته، فصرخ فيها:
_وأنتِ التانية يلا على البيت.
فردت عليه الفتاة في إصرار:
_ مش هتزحزح من مكاني غير لما اعرف إيه الحكاية.
فأسدل جفنيه مستدعيًا الهدوء قبل أن يصاب بالجنون، وأجابها بحدة صارمة:
_قُلت على البيت.. يلا مش عاوز اعيد كلامي.
فدبت الفتاة بقدميها، واسترقت نظرة إلى إسراء وانصرفت وهي تتمتم على مضض.
دار بلال نظرهُ إلى إسراء وأشار لها بعينيه أن تدخل السيارة، فتصنعت القوة وهي تعقد ساعديها امام صدرها في رفض بيَّن، وتقول في نبرات قوية:
_لأ مش هركب معاك عشان ترجعني المستشفى حتى لو هتسبني في الشارع.
ولم تترك له الفرصة ليعقب، بل هتفت في لهفة:
_يرضيك طيب إن ادخل المستشفى وحد يقتلني..
قاطع عبارتها قول بلال في برود مثير للدهشة:
_ ما تتقتلي وأنا مالي! ميهمنيش.
فسالت دمعة حزينة على وجنتيها محتها سريعًا، وهي تسير صاعدة السيارة في إحباط وأسى.
حتى إنها لم تشعر به وهو ينطلق بالسيارة..
فقد شغلها التفكير عن كل شيء آخر..
ماذا لو فلح القاتل ذات مرة بالتخلص منها!
فليس كل مرة تسلم الجرة كما يقولون؟!
فهل ستموت!
وهي لم تحيا حياتها بعد!
لا تزل لم تعش الفرحة التي تتمناها..
لا يزل الحزن يسيطر على نفسها رغم كل شيء..
ثمة ضيق دائم يكاد يهلك أنفاسها، والعجب أن الجميع يظن إنها تملك سعادة العالم كله ما دام تملك المال.
أغبياء لا يعلمون إن الأمان لا يساويه مال الدنيا.
وإن راحة القلب وسكونه هو الكنز الحقيقي الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان..
لم تعرف متى توقفت السيارة و وصلا إلى المستشفى التي بدت لها خاوية مخيفة كأن ملك موتها يحوم فيها في انتظارها، وقبضة باردة اعتصرت قلبها دون هوادة، ونظرت إلى بلال بنظرة خاطفة.. فلم يبدِ على وجهه أدنى أثر للتأثر، وهو يغادر السيارة في برود، مغمغمًا في حدة:
_أنزلي، مش هسيبك غير لما اطمن إنك في اوضتك.
وتبعته دون حرف وسارت وراءه وهي مطرقة الرأس كلا يعرفها أحد..
لماذا أظلمت الدنيا في عينيها فجأة وهو يفتح الباب مفسحًا لها الطريق، وخطت داخل الحجرة كمن يُساق للموت، وأحست بحركة من لدن الفِراش جعلتها ترفع رأسها مجفلة وما كادت تفعل حتى شهقت في فزع وهي تتقهقر للخلف..
فهناك عند فراشها كان شابٌ ملثم يقبض على مقبض ذا نصلٌ حاد، وهناك الوسادة التي وضعتها مغطاة بدلًا عنها كي لا يعرف أحد بعدم وجودها وقد تناثر قطنها فعلمت إنه طعن الوسادة المسكينة التي كانت سبب نجاتها، وتحرك الشاب..
بحركة سريعة مجفلة للجميع وهو يرفع يده ويهوى بالنصل الامع اتجاه صدرها..
صدرها مباشرةً
واغمضت عينيها وهي تصرخ في هلع..
لكن بلال تحرك بعدما خرج من صدمته ليمسك بيده قبل أن تصل إليها ويدفعها للوراء في حركة عنيفة، ويركل الشاب للخلف في غضب، فما كاد يرتد هذا الأخير حتى هجم عليه بغضب بنصله، فانحنى بلال متفاديًا الطعنة وضرب ساعده في وجهه، ويده الأخرى قبضة على النصل مجبرة الشاب على افلاته، و وقفت إسراء تراقب ما يحدث في انهيار يُدمي القلب، وخبطة عنيفة تلقتها من الشاب وهو يندفع فارًا من المكان، ولحق به بلال عبر الرواق، وتعالت صرخات زائرين ومرافقين المرضى، وشهقات الخوف من الممرضات المندفعات في خوف، ارتقى القاتل درجات السُلم وبلال وراءه، وتقلصت المسافة بينهما وفلح بلال في أن يقبض عليه من تلابيب ملابسه ويسقطه ارضًا ويعلو فوق صدره وينقض عليه لكمًا بعدما أماط اللثام عن وجهه، وهو يصرخ:
_أنت مين، وعايز تقتلها.. ليه؟
أجابه الشاب بأن رفع قدمه وضرب ظهر بلال الجاثم على صدره فسقط إثر ذلك منقلبًا واعتدل بسرعة بارعة، ولم يجد ادنى أثر للملثم، فزفر متنهدًا وهو يلتقط أنفاسه، وأسرع يهبط الدرج متجهًا إليها..
إلى إسراء
وكان لأول مرة يدق قلبه في خوف على أحد غير عائلته..
وعندما عاد كان رجال الأمن منتشرين في المكان، سعيًا وراء القاتل، واستجوابًا له عما حدث بالتفصيل، وعلم إن إسراء فقدت الوعي، وجلس في إحباط أمام غرفتها، وهب في لهفة مع خروج الممرضة، التي تساءلت:
_أنت بلال؟!
فأجابها:
_ايوة أنا هي كويسة؟
فردت تطمئنه:
_ركبنا لها المحاليل وساعة كده وهتفوق، بس قبل ما يغمى عليها.. وصتني بحاجة …
لم يدعها بلال تستكمل، وهو يسألها في شغفٍ نطقت به عيناه وإن لم تعبر نبرته الجامدة:
_وصتك بإيه؟
_إنك متسبهش، الممثلة قالتلي بالحرف (قولي لبلال ميسبنيش)
وتابعت في فضول:
_هو مش حضرتك خطيبها برضو؟!
لم يشعر بلال بنفسه وهو يهز رأسه موافقةً على سؤالها، بل لم ينتبه للقب ( الممثلة) وقد غرق تأثرًا في جملتها التي تركتها إليه.
وغادرت الممرضة من أمامه، وعاد هو ليجلس في استرخاء لا يعلم مصدره، وأسند رأسه على الجدار واسدل أهدابه على حيرة نفسه، لماذا استلذ ذاك الشعور الذي بدأ يتولد بداخله؟
شعور أنه ثمة من تكون أنت حمايته!
ولو كان غريبًا..
لا تربطكما أيّ صلة قرابة!
وتبسَّم تبسُّم المحتار..
كان عسيرٌ عليه ان يصل لقرار!
أيتركها! أماذا يفعل!
أما يفر من المكان ويكون في منأى عن كل ذلك.
لكن هذه ليس رجولته ولا من شيم الرجال.
مر بهِ الوقت دون أن يشعر وهو لا يزل مسبل الجفنين في غمرة أفكاره، حتى نبئته الممرضة إنها استعادت وعيها، فشحذ همته للذهاب لتلك الغريبة التي ألتصقت به بغتة كعلكة علقت في ملابسه ولا يدري كيف يزيلها، وطرق علىٰ الباب في هدوء ودخل دون كلمة
ودون حرف
وبخطوات هادئة ساكنة رغم صلابتها..
وتحير بما يبدأ الحديث، متخبط المشاعر، و ود لو لم يسعفها وتركها على قارعة الطريق..
ونظرت هي له وهي ممدة في فراشها بغيظٍ، وهتفت:
_إيه صدقتني دلوقتي إن في حد بيحاول يقلتني ولا برضو هتكذبني؟! آه..
تأوهت متألمة عندما حركت ذراعها الموصول به المحقن المغذي، فرفع بصره إليها، وقال في هدوء:
_ بلاش ترهقي نفسك، أنا دلوقتي مصدقك، وإن شاء الله الشرطة هتقدر تقبض على القاتل أنا أدتهم مواصفاته.
فسألته بلهفة تطل من عينيها:
_أنت شفت وشه!
فرد بإيجاز:
_ايوة.
واستطرد وهو يغض بصره متحركًا للخارج:
_أنا مستني برة لحد ما المحلول يخلص عشان …
وسكت لهنيهة، ثم قال بإنفعال:
_عشان هتيجي معايا بيتي.
وخرج مغلقًا الباب وراءه، أما هي فقد تنفست الصعداء، وامتزج بداخلها شعور الأمان بالبهجة وسريا في دماءها وقلبها.
وقف بلال أمام الحجرة بعد ما أغلق بابها، وحيدًا يترقب لعلّ وعَسَىٰ تُغير رأيها ولا تذهب معه.
ولكن آمله اضمحل إزاء سماعه لفتح الباب و وقوفها وراءه، وهي تغمغم:
_أنا جاهزة اروح معاك!
فأغمض عيناه آخذًا نفسًا عميقًا، ولم يلبس ببنت شفة وهو يتحرك أمامها فلحقت به وهي مطرقة الرأس عاقدة الذراعين، واضعة وشاحٌ تُغطي به رأسها، وتشد طرفه علىٰ وجهها كي لا يعرفها أحد حتى استقرت داخل السيارة الذي انطلق بها دون صوت، وهو يخبرها عمن يعيش معه في الببت..
فقد كان يحوى أمٌ لا هم لها إلا سعادة ابناءها، وأختٌ في الثلاثين من العمر مخطوبة تُدعى ( سُهير) و (عمرو) أخيه الصغير، هذه كانت عائلته الصغيرة، وجل همه في الحياة..
هو توفير لهم حياة كريمة..
فلا يحتاجون أحد
ولا يطلبون العون من غريب..
فمنذ وفاة والده وهو الأب والأخ والمعول لأحتياجتهم..
وهو لم يمل ولم يكل ولم يُعيّه ذلك..
فما الدنيا أمام بسمة رضى من عينين والدته..
وضحكة سعادة من ثغر أخته..
وقفزت سرور من أخيه الصغير..
لكن ما صدمها هو قوله الأخير وهو جامد الملامح وبصره مصوبًا للطريق أمامه:
_أنتِ اكيد مش هتقعدي اكتر من يومين تلاتة كده، وطبيعي اهلك هيرجعوا من بلاد بره ويقدروا يحموكِ، فعشان كده أنتِ هتقعدي في شقتي ودي محدش بيقعد فيها وهجيبلك الأكل والمياة لحد عندك و متسمحيش لحد يشوفك.
فصرخت وهي تلتفت إليه في اهتياج:
_أنت عاوز تحبسني عندك!
فعصفت رياح الغضب بقلبه، وهو يصرخ فيها ضاربًا عجلة القيادة:
_ده اللي عندي عاجبك خير معجبكش خلاص، مش من مسؤليتي اصلًا أن احميكِ وقعدك في بيتي.
وزفر في ضيق وهو يهمس في نفسه:
_أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، اول مرة حد يخليني بالغضب ده وممسكش نفسي قدامه.
واستعاذ بالله ليزول عنه الغضب.
ركن سيارته في مكانها المخصص، وترجل وهو يغمغم بصوت جاف:
_انزلي..
فترجلت في ترقب وهي لا تدري أي بيتٌ هو بيته، وحينما سار لحقت به في هدوء، ودخلت وراءه بيتًا بسيط ذا أثاث يدل عن فقر صاحبه او حاله المتوسط، وطافت مقلتيها في إنحاءه لتستطلع محتوياته، وبينما هي علىٰ تلك الحالة، وقدميها تسيران وراء بلال كأنما هي ظله الذي لا يفارقه، توقف هذا الأخير فجأة فأصطدمت به وابتعدت سريعًا وهي تزمجر بنبرة خفيضة:
_مش تقول إنك هتقف لازم تخبطني يعني!
ولا أنت بتنتقم مني؟
فتجاهلها تمامًا وهو يحدجها شزرًا، ويغمغم باقتضاب:
_آه ما هو أنا عامل زي القطة اللي ماشية تتسحب بدون صوت وراء أي حاجة وخلاص!
كان يقصدها ويستهزأ بها، فاتسعت عينيها وفغرت فاه لثوانٍ، قبل أن تجيبه بأنفعال:
_تقصد مين بقطة؟ أنا …
وأشارت إلى نفسها وهي، تسترسل:
_أنا أنا قطة!
تبسَّم بلال في سخرية، وهو يرمق قامتها الضئيلة...
بل الضئيلة جدًا..
بجانبه..
فبدت كقزمة وكتم ضحكة كادت أن تفلت من بين شفتيه تلاشت وخفتت سريعًا عندما اردفت هي في زهو:
_يا عم قطة إيه بس؟
وضحكت في خفوت، مضيفة:
_قول لبانة ولزقت فيك، ومش هتعرف تشيلها.
وضحكت بصوتٍ عال، لم تلبث إن كبتتها في داخلها عندما رمقها بنظرة صارمة رادعة، وانبعث صوت امرأة كبيرة في السن، تهتف:
_ بلال، أنت جيت، هو في حد معاك؟
فأجابها بلال رافعًا صوته ليصل إليها:
_ ايوة يا ست الكل جيت، دقايق هغير وأجيلك.
وأشار برأسه لـ إسراء كي تتبعه، وارتقى درجات الدرج ليفتح لها باب شقته التي كانت خالية من الأثاث، ومن كل شيء تقريبًا، بينما أفسح لها لتعبر للداخل وهو يقول في صلابة:
_هتقدي هنا.. وإياكِ تطلعي.
فطافت إرجاء الشقة بأمتعاض وصاحت به:
_وهنام فين أنا؟ على الأرض أنت عاوزني اتكسر.
فجز بلال على أسنانه وهو يرد عليها ساخرًا:
_لأ، ودي تيجي برضو! هجيبلك حالًا حاجة تفرشيها وتنامي عليها.
همت أن تعلق، لكنه لوح بسبابته مغمغمًا:
_ده اللي عندي عاجبك او مش عاحبك فالباب يفوت جمل.
فصمتت على مضض، واوقفته عندما استدار ليغادر، قائلة:
_استنى يا بلال أنا جعانة هموت من الجوع.
فأستدار بحركة حادة لتتراجع مستدركة:
_مش جعانة مش جعانة …
ثم اتبعت تقول في نفسها:
_ اموت احسن من الجوع ولا أموت من عينيك اللي تخوف دي يا بلال المهيب، والله يليق عليك بلال المتوحش.
وتنبهت من شرودها على تلويح كفه أمام وجهها، وهتافه:
_أنتِ .. روحتِ فين؟
فنظرت له، متسائلة:
_كنت بتقول حاجة!
فأجابها بالامبالاة وهو يكاد ينصرف:
_بقول إنك بقيتِ عالة على الواحد.
فعبس وجهها وطل الحزن في عينيها، واستوقفته مجددًا وهي تسأله بنبرة تفيض بالشجن:
_هو أنت مش عايز اهلك يشوفوني ليه؟!
فرد وهو يغادر:
_لإنك بلاء مش بيسيب صاحبه.. وبلوة على دماغ الواحد.
شيعته بنظرات حزينة وهو ينصرف وأطرقت برأسها ساهمة، ثم راحت تتحرك دون سبيل في إنحاء الشقة حتى عاد إليها بطعام وزجاجةً من الماء المثلج، وألقى أسفل قدميها غطاء (ومرتبة) صغيرة، وهو يغمغم:
_الأكل والمياه عندك والمرتبة عشان تنامي عليها وغطا، وكده مفيش حاجة نقصاكِ.
وتحرك خارج الشقة غافلًا عن أخيه الصغير الذي تبعه لأعلى عندما شاهده يأخذ المرتبة والطعام متعجبًا لشقته، و وقف مبهوتًا وهو يرَ ويسمع كل شيء من مخبئه وراء الجدار، ثم غمغم يسأل نفسه:
_هو مش دي الممثلة اللي بتطلع على التلفزيون اللي بتحبها اختي سهير!
وصاح في حماس:
_ايوة هي أنا متأكد..
وتفكر لحظة، ثم اضاف:
_بس بتعمل إيه عندنا؟! انا لازم أأقول لماما وسهير.
وقرن قوله بفعله ونزل درجات السُلم عدوًا.
يُتبع …
يتبع
لمتابعة باقي الحلقات الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
الاكثر قراءة هذا الشهر :
انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل الثالث، لمتابعة باقى أحداث رواية والتقينا الفصل الرابع أوقراءة المزيد من الروايات المكتملة فى قسم روايات كاملة إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.