نستكمل أحداث رواية والتقينا الفصل الخامس عشر من روايات ندي ممدوح .
رواية والتقينا الفصل 15
15_الزائر
إلى ذاك الغائب.. أفتقدك، إني أعلمُ إنك ثَمَّ هناك تقرأ عيناك ما يخطهُ قلمي؛ وأنا كل ما أرجوه أن ينال إعجابك وأن تشعر بالفخر بي.. بابنتك.
وعلمت يا صديقتي إني من بعدك لم أعد أملك من أفضي إليه بأوجاع قلبي (رحمك الله يا خليلتي)
(بعض النظرات حياة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هدوءٍ عظيم يغشى الأفئدة، سكونٌ تام في بيت الله، جلس بلال تحفُهُ حلقةٌ دائرية من الأطفال، بين كفيه مصحفٌ مشروعٌ على سورة (الهُمزة)؛ يُعدل لغلامٍ تلو الآخر التلاوة ويصحح لهم بتأنٍ أحكام التجويد والتشكيل، وما إن انتهى حتى غمغم وبصرهُ يطوف بين الوجوهٌ المشرقة أمامه:
_{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } وويلٌ يا أحباب تعني شرٌ وهلاك وقيل إنها اسم وادٍ في جهنم لمن؟ لكل هماز لماز يغتاب الناس ويطعن في اعراضهم.
تبسَّم بلال وهو يضيف في هدوء:
_المسلم يا أبناءي ليس بلعان ولا طعان لا يسخر من الآخرين لا يستهزأ بأخيه أو صديقه، ولا يؤذي أحدٍ من خلق الله، فعلى الإنسان إن يحفظ لسانه ويشتغل بعيوب نفسه لا بعيوب الناس، ولقد قال رسولنا الحبيب محمد ﷺ لمعاذ (هل يكب الناس على وجوههم في النار أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)
سَكَت بلال لهنيهة، ثم أردف يقول بصوتٍ رخيم:
_يحذرنا رسولنا الحبيب المصطفى من حصائد الألسن فهي أعظم الأسباب التي تُدخل بني آدم النار، فعلى المرء ألا يغتاب أحد ولا يسخر من أحد، يحافظ على لسانه وعلى كلامه فلا يخرج منه إلا طيبًا، ويخاف عذاب ربه ويتقيه...
(بلال، يا بلال في واحد عايزك برة)
هتافٌ عالٍ ارتفع على حين غرة قادمًا من باب المسجد بصوت عمرو، الذي اقترب لاهثًا بينما يسأله بلال في اهتمام:
_واحد؟! واحد مين، وعايزني في إيه؟
هز عمرو منكبيه وزمَّ شفتيه، قائلًا:
_مش عارف.
ثم مال عليه، هامسًا في أُذنه:
_يقرب للممثلة إسراء اللي كانت عندنا لإني شفته لما جه خدها.
ضيق بلال عينيه في حيرة مفكرًا فيما يمكن أن يأتي بالرجل إليه، ثم رفع حاجبه وهو ينوي الخروج إليه ومقابلته، فأغلق المصحف في رفق ووضعه جانبًا وهو يطلب من الغلمان انتظاره، ويمم وجهه شطر باب المسجد.
وقف والد إسراء على أسكفة المسجد متهدل الأكتاف، خائر القوى، ذائغ العينين، تترقرق فيهما دمعة دفينة بين أجفانه، ورمق المسجد من الداخل طويلًا لم يقو على دخوله، لم يستطع أن يفعل، شعر كأن شخصٍ مثله بكل صنيعه محرم عليه دخول مكانٍ شريفٍ كهذا، رصدت عيناه بلال يقبل نحوه، وقرأ الحيرة والتساؤل في عينيه، فبادره قائلًا بلهفة:
_بلال، يابني...
فقاطعه بلال قائلًا بدهشة:
_ابنك؟!
تجاوز الشهاوي تساؤله المندهش، واندفع يقول في لهفة:
_هو أنت مصدق إن إسراء بنتي ممكن تتجار في حاجة زي دي؟ أنت مصدق اللي بيتقال! ليه مج....
اسكته بلال بإشارة من كفه، وهو يتساؤل في حيرة:
_أنا مش فاهم أنت بتتكلم عن إيه؟ وإيه اللي بيتقال عن إسراء ولا بتجار في إيه؟!
اتسعت عينا الشهاوي ذهولًا، وغمغم:
_مش مقعول أنت معرفتش أي حاجة لحد دلوقتي؟! إزاي؟!
ثم هز رأسه وأمسك بمعصمه، قائلًا:
_هفهمك في الطريق كل حاجة بس دلوقتي، تعالَ إسراء جلست الحكم بتاعها انهاردة.
مع آخر عبارته توقف بلال مصدومًا، وقد دبَّ في نفسه القلق، وأخذته الدهشة، فقال بنبرة جامدة:
_حكم إيه؟!
_تعالَ بس معايا وهفهمك كل حاجة.
اومأ بلال برأسه ولم ينبس ببنتِ شَفة، بل أستدار في هدوء، وقال لشقيقه عمرو الواقف بعيدًا عنهما يتابع ما يحدث في صمت:
_عمرو أرجع البيت وخلي بالك من ماما، وِقول لأميرة إني هتأخر انهاردة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد
ارتجفت إسراء، وارتعدت أطرافها، وخفق قلبها في قوةٍ وعنف، وترقرقت الدموع في عينيها وهي تتطلع إلى بلال من داخل قفص الاتِّهام، الذي حملت عيناه حنان الدنيا كلها وهو يسترق من الحين للآخر نظرة إليها، ويتابع باهتمامٍ بالغ محامي الدفاع الذي استطاع بحنكة تأجيل الجلسة إلى النطق بالحكم، وانهارت إسراء أكثر وهي تمسك بكفيها القضبان الحديدية وتدس رأسها بينهما وتنخرط في بكاءٍ يُدمي القلوب، تسلل إلى أذنيها صوتًا له فعل السحر في قلبها، فرفعت رأسها إلى بلال، الذي بادرها قائلًا:
_متخافيش أنا جنبك، وهعمل كل اللي هقدر عليه عشان أخرجك.
وتطلعت إليه وقد اختنقت الكلمات في ثنايا حلقها، وجاهدت ليلفظها لسانها المتحجر الجاف، وصوت بلال يتسلل إلى أذنيها عطوفًا:
_امسحي دموع، دا ابتلاء من ربنا وهيعدي.
خرجت الكلمات من بين شفتيها مرتعدة شاحبة:
_بلال أنت اكيد مش مصدق كل ده صح؟
ازدرد بلال لعابه وأطرق رأسه في استحياء، لم يدر كيف يخبرها إنه لوهلة صدق تهتمها، فرفع رأسه إليها، قائلًا:
_لو كنت مصدق مكنتيش هتلاقيني هنا دلوقتي.
سحبوها الجنود من القفص ووالدها وندى يعدوان وراءها، بينما وقف بلال جامد الأطراف.
اللهم صلِّ على محمد
فُتح باب الزنزانة بصريرٍ مخيف آثار الفزع في فؤاد إسراء، ودب الارتياع في نفسها، وهي تتقهقر للخلف جِزعة، وجلة الروح، ودخلتها بقدمين تتخبطان ارتجافًا، وانتفضت عندما أُغلق الباب وراءها في عنفٍ أحست إنه أصيبها بالصم، جاس بصرها على السرائر والمسجنات وهي تكاد تبكي كطفلٍ صغير.
أغلق عليها باب السجن، فما لها تشعر إن روحها قد سُجنت في وادٍ سحيقٍ مظلم ما له قرار.
وإن الحياة في عينيها أصبحت ضباب..
وكل شيءٍ بات خاويًا كفراغ قلبها الآن الذي تشعر إنه كالطير الذبيح يُرفرف مع خروج روحه ويتلوى من سكرات الموت، وإما روحها فكانت كمن عمل فيها عمل المدى في الذبيح، وراحت تنزف دون أن ينضب هذا الدم.
(مش دي يا بت الممثلة إسراء ولا انا متهيألي؟! آه والله هي يا ترى إيه اللي دخلها السجن؟)
(بيقولوا ياختي إنها بتاجر في المخدرات)
(تاهم القرف ما هما كلهم الممثلين كده، بيجروا وراء القرش الكتير وبس، بلا نيلة)
أنتزعتها تلك العبارات من قوقعتها، فرفعت إسراء بصرها إلى النسوة الآتي تجمعن حولها بتفحص، وأخرى تتقدم قائلة بتسلط:
_وسعوا كده لما نشوف القمورة.. بلى ممثلة بلا بتاع، قال ممثلة قال هنا زيها زينا وأهي الممثلة مشرفة في السجن بتهمة هتاخد فيها مؤبد.
اتسعت عينا إسراء دهشة، وكادت أن ترد على المرأة، لولا إنها دفعتها في كتفها بحدة، وقالت بغلظة:
_إلا القمورة صحيح اسمها إيه؟
ثم أمسكت بمرفقها وهزتها وهي تقول:
_هو أنتِ ياختي عندك كام سنة؟! مالك معضمة وقصيرة كده ليه؟! مين واكل نايبك!
حاولت إسراء أن تفلت ذراعها من يد المرأة التي تفوقها اضعاف وكل محاولاتها باءت بالفشل، حتى لقد ظنت إن ذراعها سينخلع في يدها بكتفها، وهي تضيف في ضجر:
_بس بقا أنا هنا الكل في الكل يعني يتقال ليّ حاضر ونعم وبس.
وصرخت في وجهها بنبرة ارجفتها:
_سامعة؟
ألقت المرأة الكلمة بنبرة آمرة وهي تدفعها بقسوة، فكادت أن تسقط على وجهها إثر ذلك، لولا أصابعها التي تشبثت بحافة الفِراش، ثم اعتدلت وهي تنوي دخول مشاحنة مع تلك المرأة، لكن المرأة زجرتها بنظرة حادة وهي تشوح بكفها، مغمغمة:
_غوري اقعدي في أي مخروبة جوة.
فأسرعت إسراء تصد طريقها، هاتفة:
_حضرتك إزاي ترفعي صوتك عليَّ بالأسلوب السخيف ده وتمدي أيدك كمان!
رفعت المرأة حاجبًا في سطوة، وتخصرت وهي تقول، وعينيها تجولان على النسوة من حولها:
_أنا، بقا أنا يتقال ليَّ إن اسلوبي سخيف؟ سمعته سمعته يا نسوان أنا بدرية يتقال لي كده ومن بنت مفعوصة زي دي؟!
واندفعت نحوها وتراجعت إسراء في خوف، وفُتح باب الزنزانة، وصرخ الجندي فيهن:
_إيه كمية الدوشة اللي عملينها دي، ما كل واحدة تقعد بسكاتها.
ثم حاد ببصره إلى إسراء، ولانت نبرته مضيفًا في نبرة هادئة:
_اتفضلي معايا يا آنسة إسراء في زيارة ليكِ.
غمغمت إسراء في دهشة:
_زيارة ليا انا؟ بالسرعة دي.
وهتفت في فرحة:
_معقول يكون بلال؟!
ثم عادت تنفي قائلة:
_لا، لا مش ممكن.
ولحقت بالجندي، الذي ابطأ خطواته، ليهمس لها بنبرة ناعمة:
_أنا سمعت كل أفلامك ومسلسلاتك يا فنانة، ومن أشد معجبينك ومنبهر بحضرتك جدًا، ومتعاطف معاكِ ومش مصدق التهمة اللي متوجهالك دي، ومش مصدق إنك حاليًا قدام عيني.
حدقت فيه إسراء في حنقٍ، وتضايقت من ذكر أفلامها ومسلسلاتها وأحست باستحقار الذات وهي تتذكر تلك المشاهد التي صورتها بملابس لا تستر شيء، فطأطأت الطرف، وجهمت المحيا، ودلفت إلى حجرة فُتح بابها الجندي وصفقه وراءها، فتوقفت حائرة وهي ترَ ظهر رجلٌ فارع الطول وتوجست خفية لبرهة، واتسعت عينيها وهو يستدير في تأنٍ، ببسمة تزين ثغره، وأعيُن حزينة مغمغمًا:
_كل ده حصلك وأنا مش موجود؟
وهتفت إسراء في جزع وهي تتقهقر للخلف:
_أنـــــــــــــت!!
يتبـع…
إلى ذاك الغائب.. أفتقدك، إني أعلمُ إنك ثَمَّ هناك تقرأ عيناك ما يخطهُ قلمي؛ وأنا كل ما أرجوه أن ينال إعجابك وأن تشعر بالفخر بي.. بابنتك.
وعلمت يا صديقتي إني من بعدك لم أعد أملك من أفضي إليه بأوجاع قلبي (رحمك الله يا خليلتي)
(بعض النظرات حياة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هدوءٍ عظيم يغشى الأفئدة، سكونٌ تام في بيت الله، جلس بلال تحفُهُ حلقةٌ دائرية من الأطفال، بين كفيه مصحفٌ مشروعٌ على سورة (الهُمزة)؛ يُعدل لغلامٍ تلو الآخر التلاوة ويصحح لهم بتأنٍ أحكام التجويد والتشكيل، وما إن انتهى حتى غمغم وبصرهُ يطوف بين الوجوهٌ المشرقة أمامه:
_{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } وويلٌ يا أحباب تعني شرٌ وهلاك وقيل إنها اسم وادٍ في جهنم لمن؟ لكل هماز لماز يغتاب الناس ويطعن في اعراضهم.
تبسَّم بلال وهو يضيف في هدوء:
_المسلم يا أبناءي ليس بلعان ولا طعان لا يسخر من الآخرين لا يستهزأ بأخيه أو صديقه، ولا يؤذي أحدٍ من خلق الله، فعلى الإنسان إن يحفظ لسانه ويشتغل بعيوب نفسه لا بعيوب الناس، ولقد قال رسولنا الحبيب محمد ﷺ لمعاذ (هل يكب الناس على وجوههم في النار أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)
سَكَت بلال لهنيهة، ثم أردف يقول بصوتٍ رخيم:
_يحذرنا رسولنا الحبيب المصطفى من حصائد الألسن فهي أعظم الأسباب التي تُدخل بني آدم النار، فعلى المرء ألا يغتاب أحد ولا يسخر من أحد، يحافظ على لسانه وعلى كلامه فلا يخرج منه إلا طيبًا، ويخاف عذاب ربه ويتقيه...
(بلال، يا بلال في واحد عايزك برة)
هتافٌ عالٍ ارتفع على حين غرة قادمًا من باب المسجد بصوت عمرو، الذي اقترب لاهثًا بينما يسأله بلال في اهتمام:
_واحد؟! واحد مين، وعايزني في إيه؟
هز عمرو منكبيه وزمَّ شفتيه، قائلًا:
_مش عارف.
ثم مال عليه، هامسًا في أُذنه:
_يقرب للممثلة إسراء اللي كانت عندنا لإني شفته لما جه خدها.
ضيق بلال عينيه في حيرة مفكرًا فيما يمكن أن يأتي بالرجل إليه، ثم رفع حاجبه وهو ينوي الخروج إليه ومقابلته، فأغلق المصحف في رفق ووضعه جانبًا وهو يطلب من الغلمان انتظاره، ويمم وجهه شطر باب المسجد.
وقف والد إسراء على أسكفة المسجد متهدل الأكتاف، خائر القوى، ذائغ العينين، تترقرق فيهما دمعة دفينة بين أجفانه، ورمق المسجد من الداخل طويلًا لم يقو على دخوله، لم يستطع أن يفعل، شعر كأن شخصٍ مثله بكل صنيعه محرم عليه دخول مكانٍ شريفٍ كهذا، رصدت عيناه بلال يقبل نحوه، وقرأ الحيرة والتساؤل في عينيه، فبادره قائلًا بلهفة:
_بلال، يابني...
فقاطعه بلال قائلًا بدهشة:
_ابنك؟!
تجاوز الشهاوي تساؤله المندهش، واندفع يقول في لهفة:
_هو أنت مصدق إن إسراء بنتي ممكن تتجار في حاجة زي دي؟ أنت مصدق اللي بيتقال! ليه مج....
اسكته بلال بإشارة من كفه، وهو يتساؤل في حيرة:
_أنا مش فاهم أنت بتتكلم عن إيه؟ وإيه اللي بيتقال عن إسراء ولا بتجار في إيه؟!
اتسعت عينا الشهاوي ذهولًا، وغمغم:
_مش مقعول أنت معرفتش أي حاجة لحد دلوقتي؟! إزاي؟!
ثم هز رأسه وأمسك بمعصمه، قائلًا:
_هفهمك في الطريق كل حاجة بس دلوقتي، تعالَ إسراء جلست الحكم بتاعها انهاردة.
مع آخر عبارته توقف بلال مصدومًا، وقد دبَّ في نفسه القلق، وأخذته الدهشة، فقال بنبرة جامدة:
_حكم إيه؟!
_تعالَ بس معايا وهفهمك كل حاجة.
اومأ بلال برأسه ولم ينبس ببنتِ شَفة، بل أستدار في هدوء، وقال لشقيقه عمرو الواقف بعيدًا عنهما يتابع ما يحدث في صمت:
_عمرو أرجع البيت وخلي بالك من ماما، وِقول لأميرة إني هتأخر انهاردة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد
ارتجفت إسراء، وارتعدت أطرافها، وخفق قلبها في قوةٍ وعنف، وترقرقت الدموع في عينيها وهي تتطلع إلى بلال من داخل قفص الاتِّهام، الذي حملت عيناه حنان الدنيا كلها وهو يسترق من الحين للآخر نظرة إليها، ويتابع باهتمامٍ بالغ محامي الدفاع الذي استطاع بحنكة تأجيل الجلسة إلى النطق بالحكم، وانهارت إسراء أكثر وهي تمسك بكفيها القضبان الحديدية وتدس رأسها بينهما وتنخرط في بكاءٍ يُدمي القلوب، تسلل إلى أذنيها صوتًا له فعل السحر في قلبها، فرفعت رأسها إلى بلال، الذي بادرها قائلًا:
_متخافيش أنا جنبك، وهعمل كل اللي هقدر عليه عشان أخرجك.
وتطلعت إليه وقد اختنقت الكلمات في ثنايا حلقها، وجاهدت ليلفظها لسانها المتحجر الجاف، وصوت بلال يتسلل إلى أذنيها عطوفًا:
_امسحي دموع، دا ابتلاء من ربنا وهيعدي.
خرجت الكلمات من بين شفتيها مرتعدة شاحبة:
_بلال أنت اكيد مش مصدق كل ده صح؟
ازدرد بلال لعابه وأطرق رأسه في استحياء، لم يدر كيف يخبرها إنه لوهلة صدق تهتمها، فرفع رأسه إليها، قائلًا:
_لو كنت مصدق مكنتيش هتلاقيني هنا دلوقتي.
سحبوها الجنود من القفص ووالدها وندى يعدوان وراءها، بينما وقف بلال جامد الأطراف.
اللهم صلِّ على محمد
فُتح باب الزنزانة بصريرٍ مخيف آثار الفزع في فؤاد إسراء، ودب الارتياع في نفسها، وهي تتقهقر للخلف جِزعة، وجلة الروح، ودخلتها بقدمين تتخبطان ارتجافًا، وانتفضت عندما أُغلق الباب وراءها في عنفٍ أحست إنه أصيبها بالصم، جاس بصرها على السرائر والمسجنات وهي تكاد تبكي كطفلٍ صغير.
أغلق عليها باب السجن، فما لها تشعر إن روحها قد سُجنت في وادٍ سحيقٍ مظلم ما له قرار.
وإن الحياة في عينيها أصبحت ضباب..
وكل شيءٍ بات خاويًا كفراغ قلبها الآن الذي تشعر إنه كالطير الذبيح يُرفرف مع خروج روحه ويتلوى من سكرات الموت، وإما روحها فكانت كمن عمل فيها عمل المدى في الذبيح، وراحت تنزف دون أن ينضب هذا الدم.
(مش دي يا بت الممثلة إسراء ولا انا متهيألي؟! آه والله هي يا ترى إيه اللي دخلها السجن؟)
(بيقولوا ياختي إنها بتاجر في المخدرات)
(تاهم القرف ما هما كلهم الممثلين كده، بيجروا وراء القرش الكتير وبس، بلا نيلة)
أنتزعتها تلك العبارات من قوقعتها، فرفعت إسراء بصرها إلى النسوة الآتي تجمعن حولها بتفحص، وأخرى تتقدم قائلة بتسلط:
_وسعوا كده لما نشوف القمورة.. بلى ممثلة بلا بتاع، قال ممثلة قال هنا زيها زينا وأهي الممثلة مشرفة في السجن بتهمة هتاخد فيها مؤبد.
اتسعت عينا إسراء دهشة، وكادت أن ترد على المرأة، لولا إنها دفعتها في كتفها بحدة، وقالت بغلظة:
_إلا القمورة صحيح اسمها إيه؟
ثم أمسكت بمرفقها وهزتها وهي تقول:
_هو أنتِ ياختي عندك كام سنة؟! مالك معضمة وقصيرة كده ليه؟! مين واكل نايبك!
حاولت إسراء أن تفلت ذراعها من يد المرأة التي تفوقها اضعاف وكل محاولاتها باءت بالفشل، حتى لقد ظنت إن ذراعها سينخلع في يدها بكتفها، وهي تضيف في ضجر:
_بس بقا أنا هنا الكل في الكل يعني يتقال ليّ حاضر ونعم وبس.
وصرخت في وجهها بنبرة ارجفتها:
_سامعة؟
ألقت المرأة الكلمة بنبرة آمرة وهي تدفعها بقسوة، فكادت أن تسقط على وجهها إثر ذلك، لولا أصابعها التي تشبثت بحافة الفِراش، ثم اعتدلت وهي تنوي دخول مشاحنة مع تلك المرأة، لكن المرأة زجرتها بنظرة حادة وهي تشوح بكفها، مغمغمة:
_غوري اقعدي في أي مخروبة جوة.
فأسرعت إسراء تصد طريقها، هاتفة:
_حضرتك إزاي ترفعي صوتك عليَّ بالأسلوب السخيف ده وتمدي أيدك كمان!
رفعت المرأة حاجبًا في سطوة، وتخصرت وهي تقول، وعينيها تجولان على النسوة من حولها:
_أنا، بقا أنا يتقال ليَّ إن اسلوبي سخيف؟ سمعته سمعته يا نسوان أنا بدرية يتقال لي كده ومن بنت مفعوصة زي دي؟!
واندفعت نحوها وتراجعت إسراء في خوف، وفُتح باب الزنزانة، وصرخ الجندي فيهن:
_إيه كمية الدوشة اللي عملينها دي، ما كل واحدة تقعد بسكاتها.
ثم حاد ببصره إلى إسراء، ولانت نبرته مضيفًا في نبرة هادئة:
_اتفضلي معايا يا آنسة إسراء في زيارة ليكِ.
غمغمت إسراء في دهشة:
_زيارة ليا انا؟ بالسرعة دي.
وهتفت في فرحة:
_معقول يكون بلال؟!
ثم عادت تنفي قائلة:
_لا، لا مش ممكن.
ولحقت بالجندي، الذي ابطأ خطواته، ليهمس لها بنبرة ناعمة:
_أنا سمعت كل أفلامك ومسلسلاتك يا فنانة، ومن أشد معجبينك ومنبهر بحضرتك جدًا، ومتعاطف معاكِ ومش مصدق التهمة اللي متوجهالك دي، ومش مصدق إنك حاليًا قدام عيني.
حدقت فيه إسراء في حنقٍ، وتضايقت من ذكر أفلامها ومسلسلاتها وأحست باستحقار الذات وهي تتذكر تلك المشاهد التي صورتها بملابس لا تستر شيء، فطأطأت الطرف، وجهمت المحيا، ودلفت إلى حجرة فُتح بابها الجندي وصفقه وراءها، فتوقفت حائرة وهي ترَ ظهر رجلٌ فارع الطول وتوجست خفية لبرهة، واتسعت عينيها وهو يستدير في تأنٍ، ببسمة تزين ثغره، وأعيُن حزينة مغمغمًا:
_كل ده حصلك وأنا مش موجود؟
وهتفت إسراء في جزع وهي تتقهقر للخلف:
_أنـــــــــــــت!!
يتبـع…
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
الفصل التالي: رواية والتقينا الفصل السادس عشر
جمييع الفصول: رواية والتقينا كاملة بقلم ندي ممدوح
المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل الخامس عشر إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.