رواية غزل البنات الفصل الثالث 3 بقلم حنان لاشين

الفصل الثالث من رواية "غزل البنات" بقلم د. حنان لاشين، اقتباس"كنت أخطف من يدها تلك الصورة وأقبّلها وأغيّر الحديث لألفت نظرها لشيء آخر فأنتشلها من بئر الحزن، وأنا على يقين أنها تركت قلبها المهترىء هناك."

رواية غزل البنات الفصل 3 بقلم حنان لاشين

غزل البنات الحلقة الثالثة

"دعاء" عندما أبحر في أعماق نفسي أشعر بحنين يدعوني لأستدعي تلك الذكريات، وأن أقصّ حكايتي على البنات، فقد حان وقت البوح...

كنت وبعد وفاة أبي، ما زلت في بيته الكبير، صالة واسعة تلقي بأذرعها أمام أربعة أبواب عالية لأربع غرف كبيرة أسقفها عالية.

على جدران بيت أبي كانت اللوحات الزيتية الرائعة تشرف على المكان من علوّ، وعلى الطاولات المتوزعة في أركانه كانت تستقر مجموعة من الصناديق الخشبية الأنيقة عليها نقوش ومنحوتات رائعة، على كل صندوق منها قفل بديع وكأنه تحفّة فنيّة وحده ،أهداها أحد أصدقاء أبي إليه منذ سنوات بعد عودته من الهند، حيث كان في بعثة علمية هناك.

أما مطبخ بيتنا فيسبح دائمًا في روائح حلوة، ويلازمه ضوء الشمس طوال النهار فيغمره بضوء لطيف تأنس به أمي وهي تجلس على الطاولة لتعد لنا الطعام الشهي والأرز باللبن الذّي كنت أعشقه وأحبّ أن أتناوله من صنع يديها...

بنايتنا كانت قديمة، يحتضنها شارع جانبي دافىء، تطّلّ شرفاتها على مقهى مشهور في حيّنا، تفوح منه رائحة القهوة ولا ينطفيء مذياعه أبدًا- والذي يعلو صوته دومًا بالقرآن- إلا عندما يغلق أبوابه آخر الليل...

رائحة الريحان الحلوة تتراقص بدلال وتعانق نسمات الهواء على نوافذ جيراننا، وصوت شقشقة العصافير كل صباح يوقظني من نومي ،فأقوم وأنا أكبح تثاؤبا؛ لأراقب أبناء جارتنا الثلاثة وهم يصرخون فرحًا وهي تفتح القفص بحرص وتمدّ يدها بهدوء لتغيّر الماء للعصافير ثمّ تضع لهم المزيد من الحبوب...



كان لكل منهم عصفورٌ قد تبنّاه وأطلق عليه اسمًا مميزًا قد اختاره له، كنت أقتبس من وجوههم السعادة لأبدأ بها يومي .

عشت أستظل بظّلّ أمي وأتنفس رائحتها الزكية، وتنتظم حياتي بانتظام نبضات قلبها الحنون، أكاد ألامس طرف ثوبها بقدميّ وأنا ألاحقها، تارة وهي تعدّ الطعام فأراقبها في صمت، وتارة وهي تراقبني وتنصت إليّ وأنا أوجع رأسها بكلام البنات .

أبتسم إن ابتسمت، ويرقّ قلبي إن حزنت عندما يتحوّل الحوار ليكون عن شقيقتي "حنين" التي توفاها الله منذ سنوات وهي عروس في العشرين.

كانت تطيل الحديث عنها، وأنا أستمع وكلّي آذان صاغية، تصف لحظات حلوة مرّت بها معها فتبتسم وتلمع ثناياها، ثم سريعًا ما تبكي حتى يبتل رداؤها، شوقًا إليها وأسفًا عليها، فقد كانت فرحتها الأولى وحلمها الَّذي يمشي على الأرض ،

فكنت عندما ألحظ تلك الدمعة الرقراقة التي تترجّح في مقلتيها كلّما حَاولْتْ أن تسيل تمسكها وتستمر في الحديث أقوم لأشاكسها ولا تهدأ نفسي إلا وقد أضحتكها.

وحتّى في تلك المرّات التي كنت أدخل عليها فيها في غرفتها لأجد في يدها صورة فأتبيّنها، فإذا هي صورة شقيقتي "حنين" رحمها الله...

كنت أخطف من يدها تلك الصورة وأقبّلها وأغيّر الحديث لألفت نظرها لشيء آخر فأنتشلها من بئر الحزن، وأنا على يقين أنها تركت قلبها المهترىء هناك..

وكنت بعدها وفي كّلّ مرةّ أهرب إلى نافذتي؛ لأخفي دموعي عنها، فأنا أيًضًا أتوجّع وأشتاق إلى أختي، ثم أرفع نظري إلى السماء لأسأل الله أن يرحمها ويجعلني عوًضًا عنها لأمي، وأن يصبّ الصبر على قلبها ٍّصبا..

تخلّيت عن بعض أحلامي، وتركت عملي كاختصاصية اجتماعية؛ لأسكن تحت جناحها وأشعر بالأمان وأشعرها به وهي تحاول أن تحتويني.

اكتفينا بمعاش أبي، والإيجار البسيط لشقق البناية القديمة التي نسكنها ونملكها، ظانين أنني سأتزوج في وقت قريب جدًا، لكنه... لم يحن بعد!

كان القلق لا يفارق نظرات أمي، وهي تكرر من آن لآخر تلك الدعوة التي لا تفارق شفتيها:

- اللهم ارزقها زوجًا صالحًا قبل أن أموت.

كانت كلماتها توجعني، فكنت أسرع قبل أن تسيل الدمعة التي ترقرقت في عينيها؛ لتحرق قلبي

وأقول بعد أن أطبع قبلة على جبينها النديّ:

- ستلبسينني فستان زفافي بيديك يا أمي، وستقرّ عينك بأولاد أولادي إن شاء الله، وسأسمي ابنتي على اسم أختي "حنين." وتبدأ كالعادة في لومي وهي تكفكف دموعها بمنديلها القماشي

الأبيض، ثم تطيل النظر إلى يديها وهي تطويه لتدسّه في كمّها وتقول:

- وكيف سأفرح وأنت ترفضين كل من يطرق بابنا وتتفننين في البحث عن عيب جديد في كل عريس نستقبله يا ابنتي؟

لولا أنك حبيبتي "دعاء" وقد ربيتك بنفسي، وأعلم خبيئتك وكيف تفكرين وتتصرفين، لظننتك تعيشين قصّة حبّ في الخفاء، وأنك على علاقة بشخص ما وتنتظرينه ليتزوجك، وتخفين عنا الأمر.

وكنت أجيبها برجاء:

- إذًا فعليك بكثرة الدعاء لي يا غالية... وكانت تغمرني في الحال بالدعاء.

   الفصل التالى   

"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"

واتسابتليجرام
admin
admin
تعليقات