الفصل الرابع من رواية "غزل البنات" بقلم د. حنان لاشين، اقتباس"حيث زارت أمي التي رحّبت بزيارتهم لنا في حضور أخي "جمال .."وقد حدث بالفعل وتم اللقاء وبعد انصرافهم."
غزل البنات الحلقة الرابعة
في كّلّ مرةّ كانت تعلن فيها أمي عن خاطب جديد سيزورنا، كنت أراجع في ذاكرتي تلك المقاييس التي وضعْتُها لاختيار شريك حياتي ،وفارس أحلامي المنتظر.
كل ما تمنيته من زخارف الدنيا، رفيق آنس بقربه، أسكن إليه، أجد لذّة العيش في التحدث معه... وكنت أنتظره.
متدين ًجدا، ّمثقف، صاحب فكر وله رأي ويؤمن ّبقضية، ناجح في عمله، والكّلّ يحبه، وسيم، وطويل ومفتول العضلات!
أعلم أنني لست بكاملة، لكنني أحتاج لشخص رائع وكامل، لا أشعر بجواره بنقصي، أملت أن يأتيني كما تمنيته.
يأخذ بيديّ فيرفعني لأعلى، يحلّق معي فوق السحاب، ويرضيني ،ولهذا كنت أردّ الكثير من الخطاب لأسبابٍ كثيرة
وكانت نهاية زياراتهم دائمًا دموع أمي، وحوار يتكرر بتفاصيله كل مرة.
وكان آخر حواراتنا بعد زيارة من شاب خلوق جاء ليخطبني بعد أن رشّحتني له جارتنا الغالية التي تحبني كثيرًا، والتي تقطن في الدور الأرضي من بنايتنا وتعيش وحيدة بعد زواج أبنائها، تتسلى بالبحث عن زوج لي ولبنات الحيّ الذي نسكن فيه...
حيث زارت أمي التي رحّبت بزيارتهم لنا في حضور أخي "جمال .."وقد حدث بالفعل وتم اللقاء وبعد انصرافهم .
كنا نجلس على فراش أمّي التي رفعت حاجبيها ثم مصمصت شفتيها بعد أن أبديت رأيي في العريس ورفْضْتُه وقالت بنبرة حادة:
- لماذا ترفضينه يا "دعاء"؟
أجبتها بتبرمّ وهي تتفحّصني وتنتظر مزيدًا من التوضيح:
- لا أشعر بالرّاحة يا أمي..
قالت وهي تتعجب:
- وكيف هذا؟! إنه شاب رائع، وشكله مقبول، وعائلته معروفة ،وأضيفي على هذا كله أن لديه شقة كبيرة في وسط البلد.
حاولت أن أحافظ على هدوئي حتى لا يشتعل الحوار وقلت بأدب:
- لا تهمني تلك الأشياء يا أمي، المهم الإنسان نفسه، فأنا جلست وتحدثت معه، وأفكارنا مختلفة تمامًا،
كما أنه يرى المرأة كائنًا من الدرجة الثانية، ويشعر أن الرجل أفضل منها!
تأمّلت أمي وجهي قليلًا وكأنّهّا تفكّّر للحظات، وأمسكَْتْ بذقنها ثم قالت:
- فلندعوه ليزورنا مرّة أخرى، وتجلسين معه ونسمع قرارك بعدها ألا توافقني الرأي يا "جمال"؟
التفتت أمي لأخي "جمال" الذي كان ينصت إلينا وهو يقلّب في هاتفه الجوّال دون أن يرفع عينيه عن شاشته المضيئة، حيث قال بصوت رتيب:
- والله يا أمي هي من ستتزوج ولا أستطيع أن أفرض عليها أي شيء، يكفي أننا ضغطنا عليها عندما خطبت لـ "أحمد" وسريعا ما رفضته، فأنا حتى الآن أشعر بالحرج كلما التقيُتُ به.
اعتدلت أمي في جلستها وقالت بحسرة:
- "أحمد"، يا للخسارة، لا أدري كيف رفضتِ الزواج منه يا "دعاء"؟!
فقد كان وقور السمت، ذا ملامح طيبة حنونة تهرب الأنظار إليها ،وكان مهذبًا، قليل الكلام.
قاطعتها وأنا أحاول إيقاف تيّار المدح الذي يتدفّق من بين شفتيها في كل مرّة يتردد فيها اسم "أحمد" في بيتنا، وقلت:
يا أمي أنا لن أتزوج إلا مرةّ واحدة فاتركيني أختار بنفسي.
قالت بتبرّم:
- تنتظرين زوجًا لم يولد بعد...أين هذا الملاك!
أخشى أن يمرّ وقتك الذهبي، فلكل فتاة وقت وموسم تخطب فيه ويكثر ّطلابها، وبعد هذا يخفت الضوء ولا يسمع عنها أحد ويزهدون فيها.
قلت بيقين:
- لا تخافي يا أمي ألم تخبريني أن الزواج رزق!
قالت بضيق:
- نعم قلت هذا ولكنك لا بد من الأخذ بالأسباب!
أنتِ ترفضين وترفضين، لأسباب عجيبة...وللناس ألسن يا ابنتي ،سيشاع أنك لا تريدين الزواج، أو سيظنونك معقدة، وستظلين معي بالبيت، والعمر يمرّ كالبرق وتأكل السنون من أعمارنا ما تأكله ،
وأنا لن أدوم لك وأخشى عليك من ضربات الدهر القاسية، ووحشة الليالي الطويلة، وقسوة الأيام البالية
وأنا ككل أم أرجو لك زوجًا حنونًاً وشهمًا يكون لك وتدًا تتكئين عليه، ٍّوظلا تلجئين إليه، ولم أجد هذا إلا في "أحمد."قاطعتها بتبرّم مرّة أخرى وقلت:
- وكأن الدنيا ليس فيها إلا "أحمد" يا أمي!
أضافت وهي تطالعني بنظرة جادة:
- لا تقولي أنك لا تحبينه، فالحب سينمو ويزهر بينكما بعد الزواج.
ثم شردت بعينيها قليلًا وقالت بعد أن تنهّدت بعمق:
- ما زال حبّ أبيك يموج في قلبي، وأحنّ إليه رغم وفاته منذ سنوات ،وما زالت الحنايا تشكو ألم الفراق، وقد تعلّمت الحبّ على يديه .
تقبّلني بعيوبي وفرح بما فيّ من مميزات، فصرت أصلح من نفسي لأرضيه، وتقبلته بعيوبه... بل رضيت ببعضها؛ لأنني أحبه ولأنها أمور أستطيع أن أغمض عيني عنها طالما أنها لا تغضب الله، وإنما هو اختلاف في الطباع، ومضت الحياة بحلوها ومرهّا، وكنا معًا.
قلت بثقة:
- نحن لا نشبهكم يا أمي، جيلنا مخيف وصارت قصص الطلاق كثيرة حولي، كما أن معظم الفتيات يتزوجن ممن َّ يظن َّ ن أنه على خلق ودين ويفاجأن بعد الزواج بالعكس .
وأنا أريد أن أشعر بالحب...أريد ًحبا يناسب كبريائي، الحب الحلال يا أمي.
رفعت أمي يديها وحركتها في الهواء ثم قالت:
- أي كبرياء تتحدثين عنه يا "دعاء"، أتظنين أن الحب فعلا كما ترينه في الأفلام والمسلسلات!
الحب بناء يا ابنتي، كالهرم وليس مجرد وردة حمراء أو قلب مرسوم يقطعه سهم، الحب شيء يحتاج وقتًا لكي يولد، وعندما يولد يعيش طويلًا.
قلت بصوت هاديء، وقد سرقتني معاني كلمات أمي العميقة:
- لعّلّ الله يرزقني قريبا ما يفرحك ويفرحني يا أمّاه..
قال أخي وما زالت عيناه على شاشة هاتفه:
- وكيف ستعيشين قصة حبّ تناسب كبرياءك؟، وأنت تنتظرين شخصا على دين وخلق.. بل ويحفظ القرآن!..لا بد أن يطرق الباب أولًا ويسعى للزواج منك ثم نفتح له الباب ونرحب به ليدخل خلفه الحب الحلال...أليس كذلك؟!
انعقد لساني ولم أتمكن من الرد على كلامه، وظلّت أمي مطرقة للحظات ثم تمتمت بخفوت:
- كنت أحبه وكأنّهّ ولدي، وكان دخوله علينا فرحة لقلبي...
طالعنا أخي بنظرة خاطفة وعاد لتفحص هاتفه وهو يقول:
- كان واضحًا منذ البداية أنه يحبك... سكونه عندما تمرّين من أمامه، وتصرفاته اللاإرادية التي تشي بالكثير.
سارعت محاولة أن أغلق باب الحديث عن "أحمد" وقلت وأنا أتجنب نظراتهما:
- "أحمد" إنسان ممتاز، لكن ليس هو الشخص الذي أتمناه..إنه...
ينقصه شيء ما.
انتبه أخي لكلماتي الأخيرة ونظر إليّ وبدا الانفعال عليه، وقال بلهجة بدت لي ساخرة قليلًا:
- ليس متدينًا جدًا، بل هو إنسان عادي، ولم يتم حفظ القرآن كاملًا، ولم يدرس العلم الشرعي أليس كذلك؟!
انتظرت حتى ينهي كلامه ثم هززت رأسي وقلت بإصرار:
- نعم، وليس عيبًا أن أتمنى زوجا بتلك المواصفات، بل هذا هو الصواب، وبالتأكيد هناك الكثيرون هكذا وأفضل، فأنا لا أفكر في نفسي فقط، بل أفكر في مستقبل أبنائي، وكما اشترط هو أن تكون زوجته محجبة، أنا أيًضًا لي شروطي.
نظر إليّ أخي ِبِلوَْمٍ، وأردف قائلا:
-لا يوجد إنسان كامل يا "دعاء"، كما أنه يصلي، وخلوق، ومهذب ،ولا يقبل الحرام، ولا يدخن، ولم أشهد عليه يومًا أنه يتتبع النساء بنظراته فهو شاب عفيف، ومشغول بعمله كمهندس عن دراسة العلم الشرعي، وإتقانه لعمله مهم أيًضًا وسيحاسب عليه، وكلنّا نتمنى حفظ القرآن كاملًا ونحاول، وقد كان صريحًا وأخبرك أنه يحاول، أنت تعجّلت ولم تصبري عليه، تريدين ملكًا من السماء، وشيخًا فقيهًا ،رغم أنك أنت نفسك لست بشيخة، ولا حتى أتممت حفظ القرآن!.
شعرت بضيق عندما واجهني أخي بالحقيقة، فأنا فعلا لست مثالية، فملابسي فضفاضة قليلًا، ولكن حجابي عادي، وربما هو أفضل بالمقارنة مع غيري فقط .
وبعض من حسن الخلق أحرص عليه إرضاءً لربي، فقد عشت متسمة بالتحفظ والاعتدال في نمط حياتي لكنني بالتأكيد مقصّرة ،ولا أحفظ إلا القليل من القرآن، وكنت أمنّي نفسي بزوج يعينني ويغيرني
وكنت أنتظره، بل وازداد إصراري الآن، كدت أرد على أخي لولا صوت أمي الذي أسكتني وهي تهز يدها وتقول:
- أنت لا تقدرين ما خسرتهِ وستندمين يومًا ما، فأنت لا تدركين معنى النظرة التي كان يطالعك بها يوم خطبتكما، كان فرحًا بك وكنت "قرّة عين" له، ولا أظنك تفهمين معنى هذه الكلمة .
لاحظ أخي - الذي همّ بالانصراف - توتري وحيرتي فقال بصوت هادئ:
- أرجوك يا أمّي، فلنغلق هذا الموضوع، هي اختارت بنفسها وأبدت رأيها بكّلّ صراحة، وليس هناك داع لنعيد جدالًا لا فائدة منه ولعلّه خير.
مالت أمي برأسها على أخي وسألته باهتمام:
- ألم يطلبها منك مرّة أخرى يا "جمال"؟زمّ أخي شفتيه وأجابها وهو يهزّ رأسه نافيًا:
- لا يا أمي، لم يفاتحني مرةّ أخرى ولم يلمّح حتى بكلمة، لا هو ولا زوجتي "نور" منذ جلستنا الأخيرة هنا أنا وهو وخالي "محمد ،"عندما أبلغناه برغبة "دعاء" في الانفصال عنه، حتى أنني لم ألتقِ به غير مرّة أو مرّتين، فقد شُغل بعمله في الشركة الجديدة التي انتقل إليها، وقلتّ زياراته، وكما تعلمين، هو جاد ومهتم بعمله كثيرًا .
تنهّدت أمي بحسرة وأطرقت في هدوء، ثم استندت على عصاتها لتقف وقالت:
- سبحان الله، الزواج رزق ومكتوب، فاللهم رزقا حسنا لابنتي...
جلست أمي إلى جواري تحيطني بذراعيها وقبلتني على وجنتي في حنان، وعلى وجهها ابتسامة لا أدري كيف استطاعت أن تضعها على فمها رغم حوارنا الذي انتهى للتو، وأخذت ترقيني ولسانها يلهج بالدعاء
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"