الفصل الخامس من رواية "غزل البنات" بقلم د. حنان لاشين، اقتباس"وظل يجيبني حتى تقلصّت ابتسامته ،وبدأ يتصبب عرقًا، ويتأملني بنظرات عميقة، وانتهى اللقاء ولم يسألني يومها عن أي شيء!"
غزل البنات الحلقة الخامسة
منذ شهرين، كنت وبعد ضغط كبير من أمي وأخي، قد خطبت لفترة قصيرة جدًا، أسبوعين ويوم واحد بالتمام والكمال- لشقيق زوجة أخي المهندس "أحمد"، والذي يكبرني بست سنوات .
خطبتي له كانت كبطاقات الزينة الأنيقة التي ترسم فيها ورود رائعة، بألوان زاهية، لكنها بلا روح ولا رائحة، وكأّنّ مشاعري قد حفظت في لوح من الثلج.
كان هادئاً، وكنت كتومة، أذكر جيدًا اليوم الذي زارني فيه لأوّل مرة، كانت ابتسامته رائعة، لكنني مررت بها وبعينيه العسليتين الواسعتين بنظراتهما العميقة ًمرورا ًعابرا ولم أتوقف، تحدثنا ًطويلا، وسألته الكثير من الأسئلة، وكان يجيبني بكل بساطة ووضوح .
أرهقته بأسئلتي التفصيلية، وظل يجيبني حتى تقلصّت ابتسامته ،وبدأ يتصبب عرقًا، ويتأملني بنظرات عميقة، وانتهى اللقاء ولم يسألني يومها عن أي شيء!
واكتفى بالإجابة عن أسئلتي فتعجبت!
لم يعجبني قبوله لي دون أن يستكشف عقلي، أو يحاول حتى التجوال في فكري ليستنبط ملامح شخصيتي ويتأكد أنني أناسبه ولو بسؤال بسيط يستفزني به!
لماذا لم يسألني عن نفسي؟
وظننته لن يعود مرة أخرى، لكنه عاد وأكّّد لي أنه يرحب بالارتباط بي، وينتظر رأيي!
وظل الكل يسألني، بل في الحقيقة هم لقنوني الإجابة:
- بالتأكيد ستوافقين.
- عريس رائع.
- بلا شك....ألف مبروك.
- على بركة الله، مبارك يا "دعاء."
استسلمت لفرحتهم، وخدرتني فرحته بي، كانت المرة الأولى التي أرى أمي فرحة فيها منذ وفاة أبي ووجدتني بعد أيام أجلس بجواره في غرفة "الصالون"، أتمسك بيد المقعد المذهّب، وأقبض عليها بشدة وأحاول أن أخفي توتري.
والبيت ممتلئ بوجوه الجيران وبعض الأقارب، وأنا بفستان أزرق أنيق أكمامه واسعة، ينعكس الضوء الملون على الفصوص البراقة التي توزعت على أطرافها بعناية، وكأنها تشير إلي وجهي لتعلن للجميع أنني قد قمت بخطف قلب "أحمد" مع سبق الإصرار والترصد.
كان فستان خطبتي بزرقة صفحة السماء، تناثرت على ذيله وردات بيضاء بارزة تتوسطها حبات اللؤلؤ التي تعكس ألوان الطيف عندما يلثمها الضوء، ارتديته مع حجاب أبيض بسيط، أخبرني "أحمد" يومها أنني أشبه الفراشة الزرقاء .
وكان هو أنيقًا وفاتنًا، ما زلت أذكر عطره الرائع الذي اخترق أنفي بلا استئذان، وابتسامته المشرقة رأيت في عينيه شيئًا ما، شيئًا لم أنسه أبدًا انطبع في ذاكرتي، لكن قلبي لم يدقّ له!
كان يراقبني كلمّا التفت إليه، وكنت أتخبط من خجلي والكل يراقبني.
حاولت بعدها أن أكون سعيدة، ولكن... لم يدقّ قلبي "دقّة الحب" التي كنت أنتظرها، شعرت بفتور شديد
قارنته بفارس أحلامي الذي كنت أحاوره منذ سنوات في خيالي ،طابقتهما وخسر "أحمد"، وفاز الفارس
ورغم مميزات أحمد وإقباله عليّ، لم أكن سعيدة به.
أخبرتني أمي بعد أن صارحتها بمشاعري أن أصبر وأنني سأحبه؛ لأن الحب الحقيقي لا يأتي فجأة!
وأخبرني أخي أنه الزوج المثالي الذي يحلم لي به.
ومرتّ أيام على الخطبة ...
وبعدها هاتفت خالي وطلبت منه أن يأتي على عجل، كان خالي "محمد" شيخًا هرمًا نيّف على السبعين من عمره، يعتمد دائمًا على عصاته العجراء، كانت له هيبة، وكان الأقرب إلى قلبي، وأكثر من يفهمني، أتى لزيارتنا بعدها مباشرة.
أخبرته أنني أود الانفصال عن "أحمد"، الذي زارني بعد حفل الخطبة ثلاث مرات فقط..
كنت فيها ألتزم الصمت في كثير من الأحيان، وهو يلقي علىّ نظرات من آن لآخر، ثم يستردها سريعًا.
كنت أشعر أنها تخترق رأسي، خشيت أن يقرأ أفكاري فيسخر مني وكنت أهرب من عينيه.
كان القرار صعبًا، فقد كدّت أتراجع تعاطفًا معه، لكنني قررت أن أكون حاسمة من أجل نفسي.. وحتّى لا أظلمه، قال لي خالي وهو يمسح على لحيته البيضاء:
- أخبريني بسببٍ واضحٍ يا "دعاء"! لا يوجد عيب أو سبب وجيه لكي ترفضيه!
شعرت للحظات أن لساني قد انعقد وتخّشّب في فمي، لكنني أجبته في النهاية:
- هو شاب طيّب وخلوق يا خالي، لكنني لا أشعر بالفرحة.
لم أشعر أنه خطف قلبي، وأنني مشتاقة لزياراته، كما أنني أتمنّى زوجًا أكثر منه تدينًا،
هل حرام عليّ إن رفضته لهذا السبب؟!
قال خالي برجاء:
- مرّ أسبوعان فقط يا "دعاء"، فلنمهله قليلًا، وهي فرصة لك لتفكري مرّة أخرى، وحتى لا نظلمه
بملامح متكدرة رفعت عيني إليه، وقلت وصوتي يشي بالندم:
- ضميري يؤنبني لأنني وافقت وعلّقته بي أكثر، كان لا بد أن أكون واضحة من البداية وأقول
"لا"
المشكلة أن أمي و"جمال "يحبانه جدًا، ففي مظهره من الوسامة واللطف ما يحبب الناس فيه، كما أنه فعلًا خلوق وطيب الخصال، وكلما فتحت فمي يقولان لي كما قلت أنت يا خالي في بداية حديثك..
"لا يوجد عيب أو سبب وجيه لكي ترفضيه!"، وكلامي دائمًا لا يعجبهما.
رفع خالي نظره إلى سقف الحجرة وصمت للحظات قليلة، ثم قال:
- هذا زواج يا" دعاء"، لا بد أن يرضيك أنت وليس أي أحد منّا، لا يهمك رأينا، لا بد أن تشعري بالفرحة عندما ترين زوجك، أي يكون "سكنًا" لك، ليملأ عينك، ويرضي نفسك...
أن تكتفي بوجوده عن الجميع، أن يكون إقباله فرحة، وإدباره انتظارًا لعودتها، وحضوره هو عين السعادة ورؤيته بعينيك تغمرك فيها، إن لم تشعري بأي من هذا، فلماذا ستتزوجينه إذًا ؟
فكّّري جيدًا واتخذي قرارك وأنا معك يا ابنتي، ولكن تذكّّري أنه ربما يرحل بلا عودة، وربما لن يتاح لك اللقاء بشاب رائع مثله مرةّ أخرى.
أراحني موقف خالي رغم قلقي من جملته الأخيرة، واتّخّذت قراري، وقلت له وهو ّيربت على كتفي:
- إن شاء الله لن أندم، والله يعلم ما بنفسي وما أتمنّاه، وسيرزقني ،وربّما.. الله يصرفني عنه لأنه يستحق من هي أفضل مني، أو ربما أنا لا أستحقه!
اقتنع خالي وتحدث إلى أخي وأمي، وتحررت أخيرًا من قيد ضايقني وجوده رغم أنني لم أتوجع منه يومًا، والجميع يراقبني ويتعجب!
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"
"اشتركوا على قناتنا على تليجرام أو قناة واتساب ليصلكم أحدث الفصول والتنبيهات فور نشرها"